ركبنا سيارة الأجرة الصغيرة حمولة أربعة ركاب. كان السائق من بدو بير السبع، والسيارة جديدة بيضاء اللون. لم يتنازل عن مبلغ 300 شيكل، مقابل ساعة من السفر لا غير. استغلال مكشوف، إنما ما في اليد حيلة. سارت السيارة ببطء ونعومة في البداية ثم أسرعت حين أخذنا الطريق العام. مساحات هائلة من الخضرة، مرتبة ومهذبة، كأنما صنعتها يد فنان لا مزارِع. هدوء وسلام يرين على الطبيعة، عكس ما تحظى به طبيعة غزة من تنكيل وقسوة لا تُضاهى.
أخذ أحدُ الركاب يسأل السائق عن أسماء القرى والأماكن التي نمرّ بها. تلعثم السائق وشرع يقرأ أسماء عبرية. ما أثارني وجعلني أتدخّل. فأنا أعرف المنطقة شبراً شبراً، وأعرف أسماءها العربية. مررنا بعدة قرى زال اسمها العربي وحلّ مكانه اسم عبري. نبّهتهم، هذه القسطينة..، هذه حمامة..، هذه أسدود، هذه بيت دراس، هذه عسقلان، إلخ. أما نجد قريتي، فهي الآن محمية طبيعية وبُنيت فوق أراضيها مستوطنتان كبيرتان، هما سيدوروت و أورهنير.
انزلقت السيارة بنعومة على إسفلت متقن الصنع. أخيراً عبرنا جسر المجدل، وبعض البلدات، ثم انحرفنا شرقاً باتجاه جبال القدس. غادرنا السهل الساحلي وبدأت طبيعة المكان تتحوّل من السهل الرملي المنبسط كراحة اليد، إلى تضاريس الجبال بألوانها الصخرية المتعددة. جلال ورهبة تبثّهما الطبيعة فيك، خصوصاً إذا كنت من سكان الساحل ولم تر في حياتك تضاريس الجبال الوعرة.
أنظر مشدوهاً ومفتوناً بتنوّع جغرافية فلسطين. جبال كبيرة خضراء مرشومة بأشجار الصنوبر العالية وبأنواع من شجر التفاح وسواها.
يقول السائق إنّ أشجار الصنوبر زُرعت على زمن الحكم الأردني.

لقد بلغت النشوة! أجل، فمع هذا الضحى الصافي، ومع هذا النور السائل اللطيف، ومع عليل الجبال وهوائها البارد المصفّى: بلغتُ النشوة! أين هذا الجوّ من جوّ غزة الملوّث باليورانيوم وعوادم البنزين المصري الرديء؟
هنا لا رائحة حتى لعوادم السيارات. فبنزينهم نقيّ وكمية العادم الخارج من السيارة مراقَبة بصرامة لكيلا تُلوّث المحيط. فضلاً عن أن السيارات هنا لا تعمل على الخط بعد اشتغالها عشر سنوات. إنها تُحال على المعاش في سن العاشرة. ولن أدخل في المقارنات بيننا وبينهم، فالمقارنات ظالمة، وبخاصة بين عالم أول وعالم عاشر.
مررنا على قرية دير ياسين، ورأينا بعض بقايا بيوتها العربية واضحة من زاوية الطريق. أتذكّر الآن مقولة بن غريون: quot;لولا مذبحة دير ياسين ما قامت إسرائيلquot;.
لقد نكّلوا بأهلها [يوم 9 نيسان] عن قصد لترويع الأهالي. وكان لهم ما أرادوا، فنزح وهرب أغلب الأهالي في غالب المدن والقرى العربية. سكان عزّل أمام آلة حربية صماء لا تعرف الرحمة. حاصروا كل قرية من ثلاث جهات وتركوا الرابعة مفتوحة لكي يهرب الأهالي، فهم يريدون الأرض لا البشر.
ها هي معالم القدس تظهر في الأفق. مستوطنات كثيفة على رؤوس الجبال. جبروت إنشائي، طوّع الطبيعة الصخرية القاسية، وجعلها رهن بنان المهندسين الكولونياليين.
مررنا على مقبرة يهودية لحظة دفن أحدهم. متدينون بقلانس سوداء وشبان وصبية، وربما حتى نساء، فلم أتأكّد. هو الموت له نفس الملامح في كل زمان ومكان.
ها هي عتبات القدس. ثمة مترو يجري إنشاؤه هنا. أدوات بناء من قضبان حديدية وإسمنت وخلافه. عبر بنا السائق، وشدّد على ضرورة ربط الأحزمة، أكثر من مرة. ضحكتُ: منذ أوسلو نسينا هذه العادة في غزة. منذ جاء إلينا إخوتنا لم نربط حزاماً. كانت هذه عادة متأصلة أيام الاحتلال.
تدرج السيارة على إسفلتات نظيفة برّاقة مستوية، لا مطبّات فيها ولا خدوش. جبال، جبال، ومن جبل إلى نفق، ومن نفق إلى رامزور. هنا يقع المقرّ المركزي لشرطة إسرائيل القطرية. وغير بعيد مقر رئاسة مجلس الوزراء ومقر الكنيست.
_ الحمد لله على السلامة.
فاجأنا السائق، حين انعطف يميناً في شارع راغب النشاشيبي، وأوقف السيارة.
_ هوذا مستشفى مار يوسف، وصلنا بلا تأخير.
_ يعطيك العافية
فيما بعد، أنّ هذا الطريق العام (طريق رقم واحد) لا يبعد سوى أمتار عن طريق آخر مواز له، كان الحدّ الفاصل بين القدس بجزأيها الشرقي والغربي. وأنه، أثناء حرب حزيران، كانت هنا الدُّشم ومعدّات الجيش الأردني، إضافة بالطبع إلى المقاومين. تاريخ أضاءه لي الرفيق إلياس، السجين السابق من الجبهة الشعبية، والذي أمضى في سجون الاحتلال ثمانية أعوام من عمره. ورجل الأمن في المستشفى حالياً.

ودّع قناعاته الثورية، كمعظمنا، وصار يُركّز في أحاديثه على ضرورة النقد الاجتماعي وضرورة التعامل بعقلانية صارمة بدل العواطف.
فالصراع الضاري يتطلّب عقلاً ومنطقاً لا عواطف مهوشة.
دخلنا إلى الطابق الأول من المشفى، وسجّلنا أسماءنا عند موظفة، في انتظار استكمال الإجراءات الروتينية قبل العرض على الطبيب المختصّ. لفتت نظري نظافة ودقة الترتيب في المشفى. هدوء يُخيّم على المكان، والإجراءات تتمّ بسلاسة.

نبذة تاريخية عن المكان
quot;تأسس هذا المستشفى سنة 1954، من قبل أخوية راهبات مار يوسف للظهور في حي الشيخ جراح. وهو مؤسسة خيرية هدفها الأساسي خدمة الفقراء والمحتاجين حسب مبادئ تلك الأخوية، التي تتلخّص في تقديم الخدمة والمعونة للجميع، دون تمييز من ناحية الدين، الجنس، اللون أو الثقافة.
تُعَالجُ فيه الأمراض التالية: جراحة النساء العامة. جراحة المسالك البولية. جراحة الأعصاب الخاصة بإصابات الدماغ وأورام السرطان. جراحة العظام. تنظير القصبة الهوائية. فحص القلب. جراحة الأنف، الأذن والحنجرة. جراحة التجميل. ويحتوي على أجهزة متطورة للتنظير الداخلي وأجهزة متطورة لتفتيت حصى المسالك، إضافة إلى وحدة العناية المركزة ومختبر طب قسم أشعة.
يُعالِجُ المستشفى مرضى القدس والضفة الغربية وقطاع غزة.quot;
أخذ أخي سريراً في الطابق الثاني قسم المسالك البولية، وبدوري دبّرت نفسي في بناية ملحقة تُستخدم لمبيت الموظفين. غرفة صغيرة تضمّ أربعة سُرر، بنظام سريرين فوقي وتحتي على جانبي الغرفة. حسن. إنه أشبه بفندق متواضع. فندق يفي بالحاجة وأكثر.

لحظة الحقيقة
في اليوم التالي تم عرض أخي على الطبيب المختص _ قسم المسالك البولية. فاجأنا الطبيب، بعد أن قام بفحصه سريرياً، فحصاً أولياً، بمدى تمكنّ المرض الخبيث منه. قال إنّ الورم في الحالة الثالثة من حالاته الأربع. وأنه ليس أمامه سوى أجراء عملية منظار وتنظيف البروستاتا، مع أخذ عيّنات للفحص المختبري، وبناء على النتيجة يتمّ التعامل مع الحالة، بالعلاج الهرموني وربما بالعلاج الإشعاعي.
خيّم علينا، أخي وأنا، جو من الكآبة الخانقة، والتجهّم. فتشخيص الدكتور وائل أبو عرفة، جاء معاكساً تماماً لتشخيصات الأطباء في غزة. فهم هناك قالوا أنّ المرض في مراحله الأولى، ويمكن السيطرة عليه بإزالة البروستاتا إزالة كاملة. قال أبو عرفة: لا فائدة عملية من إزالة البروستاتا. بل إنّ إزالتها في هذه المرحلة المتقدمة من الورم لها مضاعفات وخيمة، مثل عدم التحكم في التبوّل، وربما الحاجة الدائمة لتركيب كيس بول مدى العمر.
كانت مواجهة الحقيقة، بهذا الشكل العاري، قاسية على نفسيّتيْنا. نمنا تلك الليلة، وكأنّ الأكسجين قد شُفطَ من الهواء. أخي على سرير المرض في قسم المسالك، بالطابق الثاني، وأنا على السرير العلوي في البناية المجاورة.
لا أعرف كيف نمت ولا متى. الأغلب قبل أن يُشقشق الصباح.