منذ رحيل النظام السابق ودخول العراق في نفق النظام الجديد الهش الذي أقامه قادة الأحزاب الطائفية والعنصرية، باسم المحاصصة الطائفية والقومية، ظل الشعب العراقي أسير دوامة العنف والفساد والفشل، رغم كل محاولات التلميع والترقيع والتلفيق التي حاول بها المتحاصصون إخفاء الحروب المشتعلة فيما بينهم خلف الأبواب المغلقة. وظل كل طرف يتربص بشريكه ويتحين الفرص لذبحه ودفنه والاستواذ على حصته من السلطة والنفوذ. مع ما رافق ذلك من فشل آخر ظل يتعاظم، يوما بعد يوم، في تحقيق ما وعدونا به، وأهمه وأوله الأمن وتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطن.

ومنذ الأشهر الأولى لاشتعال الصراع الطائفي كان سؤال واحد ملح يتردد في كل منزل عراقي، من أقصى شمال الوطن إلى أقصى جنوبه، عن وصفة الخلاص من هذا النفق المظلم المخيف. وعلى ألسنة الكثيرين من الكتاب والمحللين كان يتردد دائما سؤال آخر عن البديل المتوفر والمعقول والقادر على الفصل في هذه الدوامة الخانقة.

وبين هذا وذاك كان المثقفف العراقي المستقل وغير المنتمي لأي من أطراف المحاصصة، في الداخل والخارج، يبحث عن دور يستطيع أن يقوم به، ضمن إماكانتاه القليلة والضعيفة لمواجهة قوى مدججة إلى هاماتها بالسلاح والمال والإعلام الكاسح اللذي يققتلون به الكلمة الشريفة العفيفة الصادقة.

ثم جاءت المجزرة الانتخابية الدائرة حاليا في العراق لتكشف أن تلك المحاصصة ومزاعم أصحابها حول المصالحة الوطنية كانت مجرد بالونات هوائية فارغة. وأن كل طرف من أطرافها الفاعلة يتحين الفرص للإيقاع بشركائه الآخرين، وشطبهم من الشراكة، وإلغاءهم من الخارطة السياسية التي أسسوها، هم، معا، وفق مقاييسهم واحتياجاتهم، وقنعوها بقناع الديمقراطية المغشوشة البائسة. والحقيقة هي أن الشاطب والمشطوب كلاهما في النار. والمضحك المبكي أن الشاطب يتمسح بالدستور وأحكامه، في حين أن المشطوب يتمترس بالديمقراطية وقوانينها. والدستور والديمقراطية بريئان من كليهما. فلا الأول يشهد له سجله، طيلة مسيرته السابقة، بأنه احترم الدستور، وحافظ على استقلاليته ونقاء دوافعه الوطنية، وأبى على نفسه أن يكون واحدا من خدم القوى الخارجية الطامعة بالوطن وأهله. ولا الثاني كان منزها من احتقار الديمقراطية والعبث بقوانينها حين تقتضي مصالحه الخاصة ومصالح داعميه المحليين والخارجيين، على حد سواء.

ولكي تكون الصورة أكثر وضوحا يتوجب علينا أن نقر بأن المتحاصصين جعلوا العراق ساحة مفتوحة تتصارع عليها، بضراوة، قوى كثيرة، محلية وعربية وإقليمية ودولية، أبرزها، بل أكثر أطرافها وضوحا، أمريكا وإيران، ومعهما حلفاؤهما وعملاؤهما من العراقيين والعرب على حد سواء.

وبمجيء أوباما بدعوته إلى التغيير التي تعني الخروج من العراق من الباب من أجل العودة إليه من الشباك، تحول العراق إلى أهم ساحة وأكثرها ملاءمةً لمحاصرة إيران وإغراقها في الوحل العراقي، وإضعاف نفوذها وتقليم أظافر حلفائها.

وعلى أثر فشل أحلام بترايوس في أن يفرض على القوى الحاكمة الفاعلة (الموالية لإيران) جحافل الصحوات (السنية)، ومعها سياسيون عراقيون، سنة وشيعة، محسوبون على البعث، وحائزون على ثقته، وغير خائفين ولا خجلين من حمله على ظهورهم، وإعادته إلى الساحة السياسية العراقية من جديد، فهمت إيران اللعبة، وأدركت أبعادها، وصممت على وأدها وإبطال مفعولها، وعدم تمكين أمريكا من خلق قوة مواجهة عراقية فاعلة تضعف نفوذها وتحد من هيمنة حلفائها.

بعبارة أخرى إن إيران هي صاحبة الهجوم الكاسح المبتكر الذي نفذه اللامي والجلبي، لتفويت الفرصة على أمريكا وحلفائها الجدد في العراق لخنق النفوذ الإيراني، وإسقاط الورقة العراقية التي تمسك بها القيادة الإيرانية، وتلوح بها عند كل منعطف ساخن تبلغه المواجهة بينها وبين أمريكا بشأن ملفها النووي.

ومع إيمان الغالبية العظمى من العراقيين بعدالة منع البعثيين الذين ثبت أو يثبت ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية من العمل السياسي، مع استثناء البعثيين الآخرين الذين حملوا فكر حزب البعث ولم يشتركوا في جرائم النظام السابق التي لا يمكن إنكارها ولا نسيانها، إلا أن أيا منهم لا يستطيع الموافقة على شطب مئات السياسيين بحجة موالاة البعث، لأنه تم بدوافع غير وطنية وغير نزيهة. كما لا يمننا الدفاع عن المشطوبين، دون التدقيق المنصف المحايد في حقيقة التهم الموجهة إلى كل منهم، خصوصا ونحن نعلم أن بعث عزة الدوري ويونس الأحمد يقفان وراء بعض المشطوبين، ويتخذان منهم واجهة مرحلية في مسيرة العودة إلى السلطة من جديد.

هنا يأتي دور المثقف العراقي النزيه الذي لم يتسخ ضميره بالمكاسب العابرة، ولم ييلوث وطنيته تعصب طائفي أو عنصري. وفي هذا الإطار ليس في قدرة هذا المثقف، الآن، لمواجهة هذا الطوفات الكاسح من الوجوه الفاسدة والأفكار الصدئة والأمجاد الفارغة سوى السخرية، وهذا أضعف الإيمان.

وقد تفتقت العبقرية العراقية عن سلاح مبتكر جديد، غتعل ومؤثر وجريء هو سلاح الملصقات الساخرة التي بدأت تتكاثر في شوارع المدن العراقية كافة وهي تسخر من فرسان المحاصصة، دون استثناء. إنها انتفاضة شعبية سلمية، ثقافية وإعلامية، هدفها تحريض الناخب العراقي على قلب الطاولة على رؤوسه أصحابها، هذه المرة، وإخراج طبقة جديدة من السياسيين، من خارج دوائر المتحاصصين.

وسوف يسجل التاريخ لشعبنا ولمثفيه الشرفاء فضل اختراع هذا الأسلوب الجديد في مواجهة البنادق والرشاشات والمفخخات بالكلمة والصورة والأغنية، وهو أضعف الإيمان.

وأرفق هنا تسجيلا لعمل موسيقي عبقري أجهل صاحبه، لنشيد (موطني)، ولكن بكلمات جديدة، تعادل في تقديري مئات المقالات والتعليقات والتظاهرت في مواجهة القمع المغلف بالديمقراطية الذي ابتدعه الفاسدون.