عندما استدرك أنطونيو سكارميتا جموح عبارته حول الديمقراطية ليوقفها عند حد لا يجوّز بمقتضاه التصويت عمن يكون الأب داخل الأسرة، فإنه كان بصدد إرساء قوانين العائلة التي ينبغى أن تكون من القوة والميثاقية بحيث لا تتزعزع حتى في مهب الأحلام الجارفة والأفكار الجمالية المتطرفة، الأمر الذي يعني بالمقابل عدم إمكانية أن يستقيل الأب من أبوته، ومن هذا المنطلق ينبغي قراءة استقالة الدكتور عبدالعزيز السبيل، أي كحدث ثقافي، إذ لا بد من التفريق بين استقالته، بصفته وكيلاً لوزارة الثقافة والإعلام لشؤون الثقافة، وبين كونه عضواً ضمن عائلة ثقافية، بل أباً وراعياً رسمياً لها، وإن كان موقعه كمثقف ومسؤول رسمي يعطيه الحق في الغضب من أبنائه حد معاتبتهم أو حتى توبيخهم.

خبر استقالته الذي تم تفريغة من عنصر المفاجأة نتيجة التسريبات التي اتخذت عند أغلب المثقفين لبوس القلق والحزن والخوف من غياب الأب، يعيد إلى الذاكرة تلك المرة الوحيدة التي خرج فيها بشكل علني عن النص، وهو المعروف بأناته ودبلوماسيته في إدارة الشأن الثقافي، حين فاجأ المشهد الثقافي في لقائة الشهير مع مثقفي عرعر ببيان غاضب ينم عن عدم الرضا من أداء بعض المثقفين (وعدم نجاح بعضهم في إدارة الأندية الأدبية). كما نُسب إليه آنذاك تصريحات مفادها أن (هناك العديد ممن لديهم إمكانات ثقافية وأدبية لكنهم يفتقدون إلى الإمكانات الإدارية) فيما بدا حينها إعلاناً صريحاً عن اليأس الرسمي من بعض المثقفين الذين انتخبتهم المؤسسة لتنفيذ أجندتها، وإن كان عباراته الصادمة تلك لا تخلو من خيبة صريحة على المستوى الشخصي، لم يتفاعل معها المعنيون بإدارة الفعل الثقافي كما ينبغى، بل نكّسوا رؤوسهم باستحياء لتمر بمنتهى السلبية وكأن كلماته الصريحة ومكاشفته الجريئة تلك لجانب من المشهد لا تعنيهم بشيء، ربما لأن التهمة كانت من الصرامة ودقة التوصيف بحيث لا يمكن ردها.

واليوم يفاجئ الوسط الثقافي باستقالة متوقعة ومعروفة منذ زمن، ولا يبدو أنها ستحرك شيئاً في الضمير أو الجسم الثقافي الذي اعتاد الخمول والتعاطي بسلبية مع كل القضايا والمتغيرات الثقافية، حتى صار ترحيل الجدالات الملّحة إلى الهامش عادة عضوية، بل ان خبر الإستقالة لن يتجاوز كونه مادة إعلامية تُلاك بين ألسنة المثقفين على هامش اليومي ولن يتم تصعيدها إلى مستوى الحدث الثقافي، أو هذا ما يُراد لها، رغم أن السبيل ليس مجرد وكيل عادي في وزارة الثقافة والإعلام، بل هو ظاهرة ثقافية استثنائية ومختلفة كل الإختلاف عما اعتاده المشهد. وليس من المبالغة القول بأنه يشكّل الدعامة الأبرز في النظام الثقافي القائم بكل ما فيه من أسماء وفعاليات وعناوين، فهو ndash;كمثقف- منبثق من قلب المشهد ولا يشبهه في آن، وبالتالي فإن وجوده واستقالته مسألة جديرة بالقراءة والمساءلة من وجهة ثقافية بحتة، فهو مهندس اللحظة الثقافية التي أعقبت دمج وزارة الثقافة والإعلام تحت عنوان واحد، وهو المسؤول عن ترتيب البيت الثقافي، ضمن سياق ممتد للسنوات الماضية تم فيها عقد مؤتمر المثقفين السعوديين الأول، والذي على إثره تمت إزاحة الرؤساء الأبديين للأندية الأدبية، وتدشين متوالية جديدة من الأندية الأدبية، وإعادة الحياة لمعرض الكتاب الدولي بالرياض بعد إنقطاع طويل، ثم إقرار ما عُرف بالخطة الوطنية للتنمية الاسترتيجية، وتشكيل جمعيات متعددة كجمعية الفنون التشكيلية وأخرى للمسرح عن طريق الإنتخاب وهكذا، وصولاً إلى عقد مؤتمر الأدباء الثالث، حيث آثر السبيل إشهار وداعه بعد الإنتهاء من أداء شعائره الإدارية كما ينبغي استكمالاً لمهمته الثقافية، ليترك الجميع أمام تحدٍ كبير قبل فترة قصيرة جداً من انقضاء فترة تكليف مجالس إدارات الأندية الأدبية، وبدون إقرار اللائحة الموعودة، وعدم ظهور أي ملامح للكيفية التي سيتم بها إقرار تنظيم المراكز الثقافية، وقبل شهرين من موعد الحفلة السنوية لمعرض الكتاب الدولي، وكأنه يعلن إنقضاء مرحلة برمتها، وليس مجرد الإنسحاب الفردي من المشهد الثقافي.

وإذا كان يُحسب للسبيل ذلك التراكم المنظّم من العناوين الأدائية المغايرة، إلا أن الإستثناء الأهم يمكن ملاحظته في الكاريزما التي يتمتع بها كذات ثقافية واعية بدورها وشكل حضورها، فبالإضافة إلى كل تلك المنجزات الثقافية التي يتم تصنيفها من قبل بعض المتحمسين كحالة ثقافية إنقلابية، لم يقترب مسؤول ثقافي -قبل السبيل- من المثقفين إلى هذه الدرجة من الحميمية، والقدرة على تفهّم أحوالهم وهمومهم الثقافية، على المستوى الفردي والجمعي، سواء كانوا من المنتمين للمؤسسة أو المغردين خارج سربها، والمختلفين مع مخططاتها وبرامجها، لدرجة أن أغلب المصابين بمركبات النقص كانوا يتباهون بامتلاكهم لهاتفه الشخصي، حيث فهموا طريقته الودودة في مسح الحدود بينه وبينهم كإشارة مغرية للتطفّل على مزاجه ووقته بدون أدنى انتباه ولا ارتداع، وهو بالتأكيد يتحمل الكثير من ذلك التعدّي على مجاله الحيوي وإرباك برنامج عمله.

لقد أغرى الفهم الخاطئ لإشاراته المشجّعة معظم المثقفين لإزاحته عن مهماته الثقافية إلى الهوامش، كما أسهم تهاونه الواضح في استسفاه أغلب المثقفين، حيث تم تحويله بحماقاتهم التي لا تنتهي إلى مجرد إطفائي لخلافاتهم الصغيرة، فبمجرد أن ينتهى من تركيب إدارة نادي الأحساء وفق محاصصة تطلبتها حساسية وأمراض المثقفين الذين دخلوا النادي برواسبهم الفئوية والمذهبية والإعتقادية، حتى يُواجه بنبأ حريق آخر عنوانه اختلال المعادلة الملفقة لشلة نادي أبها، فيسارع لترميم أو ترقيع البنية الآيلة دائما للسقوط بسبب الوعي الناقص والإستئثاري لبعض المثقفين. وما أن يُنهى خلاف أولئك المتنازعين على كراسي الوجاهة حتى يُستدعى على وجه السرعة إلى الجوف ليفض الإشتباك بين فريقين يُفترض اشتراكهما في مهمة إنتاج الوعي لا التصارع على ما تبقى من كريمة الكعكة. ثم يهرع ليطفئ خناقة حريمية للجنة النسائية في نادي الطائف الأدبي، ليتابع من مكتبه مهمة إسكات كل الصراخ المنبعث من حفلات (الردح) للجان النسائية، التي صارت تطحن بعضها تارة والرجال تارة أخرى، ولا تنتج أي عجين ثقافي، حتى نادي العاصمة كانت أبرز قضاياه المختلف عليها المزاعم حول مسألة الطعام البائت الذي يُقدم للنساء بعد فراغ الرجال منه، وهكذا كان يتنقل بلا هوادة بين الأندية، يسترضي هذا ويطبطب على كتف تلك وكأنه لا يمتلك سلطة إدارة الشأن الثقافي وفق صلاحية اللوائح والقوانين التي تضبط الحقوق والإمتيازات.

قلة هم الذين ارتقوا بأنفسهم وخطابهم خلال السنوات الإربع الماضية ليساعدوه على تنفيذ جانب من أجندته، رغم معرفة كل المثقفين بأنه يعاني في الجانب الآخر من غضبة شعبية، مثله مثل غيره ممن حاولوا تغيير مواضعات المعادلة الثقافية، الأمر الذي يعني أن استقالته لا يمكن تبريرها برغبته الشخصية للعودة إلى نشاطه البحثي والأكاديمي. حتى الوزير الدكتور عبدالعزيز خوجة لا يعرف الأسباب، أو لا يمكنه التسليم بفكرة طلبه للتقاعد المبكر، كما يستشف من تصريحه حيث قال متأسفاً على فقدان الوزارة لرجل مخلص متفانٍ من أجل الثقافة (وقد حاولت جهدي أن أثنيه عن قرار الاستقالة، ولكنه كان مصرا عليها لظروف خاصة لا أعرفها...وسأفتقد فيه أخاً كان يحمل عني عبئاً كبيراً في إدارة العمل الثقافي).

وبقدر ما ينبغى التعاطي مع نبأ استقالته كحدث ثقافي، ليس من المستحسن النظر إلى تداعياتها كاستجابة رسمية لضغوط شعبية مضادة، فهذه قراءة قاصرة من قراءات العاجزين والمكللين بعار الإستسلام لعدو افتراضي، حتى وإن صحت بعض تلك البيانات الرسمية والإشاعات الثقافية، فإنها تصب مجتمعة في مصب خيبة شخصية للسبيل، لا يمكن تفادي الارتطام بها كحقيقة صادمة، إذ لم يجرؤ أي مثقف طوال الفترة الماضية على إبداء أي مقاومة ثقافية تُذكر لتغيير مجرى الحدث الثقافي، وتشكيل جبهة ثقافية عنيدة يُعتد بها، أو يمكن الرهان عليها، حتى داخل مجلس الشورى لم يكن على مقاعده الوثيرة ما يفيد بوجود نصير حقيقي للثقافة والمثقفين، إذ لم يكن أغلب مشاة السبيل من المثقفين بعد أن أطلق مدافع حربه من أجل الثقافة الجديدة، إلا مجرد أسماء مصفوفة على سلم الرواتب، وكأنه قد اختار لفيالق معركته مشاة على درجة من الكساح والخرس، هذا إن لم يكن أغلبهم قد فُرضوا عليه فرضاً لإعاقة مشروعاته، أو توريطه في لعبة تغيير شكلية، حيث أقرّ في حديثه المعروف لمثقفي نادي عرعر بأن اختيار أعضاء الأندية يتم (عن طريق التشاور مع الجهات المختصة، من إمارة المنطقة والتربية وجهات عدة، ويكون الرأي الأول والأخير لوزارة الثقافة).

قد يكون من المنطقي أن يستقيل من منصبه الرسمي لأي سبب إداري. ولكن حتى هذه اللحظة لا يبدو أن تنازله السهل عن موقعه كأب ثقافي يمكن التسليم به وتمريره بهذه السهولة، فالأب لا يستقيل من أبوته، حتى لو كان أباً شفهياً، كما هو الحال مع السبيل. وعليه فإن مهمته لا تكتمل إلا عندما يروي بمنتهى الشفافية سيرة المنعطف الثقافي الذي عبر به حوارييه من المثقفين، فإذا كان أغلب الذين فروا من سفينته لم يقدموا من الأسباب الثقافية ما يقنع بمبررات استقالاتهم، بقدر ما تعذّروا بالصراع على رئاسة لجنة، أو احتلال غرفة، أو الإستحواذ على طاولة في مبنى مهترئ، فالأمر يختلف بالنسبة له، لأن أولئك على درجة من الهامشية، ولا يشكلون أي قيمة ثقافية تُذكر، والدليل الجلي هو معنى دخولهم أروقة المؤسسة والطريقة المخجلة لانسحاباتهم من أبوابها الخلفية، وبالتالي فهم لا يمتلكون حق النظر في مرآة التاريخ، نظراً لضآلتهم، أما السبيل فهو المعنى الأول بتلك السنوات المليئة بالضجيج، التي لم يقترب من منابرها أحدٌ ممن يُعرفون بخبراء الثقافة بقدر ما كانت مرتعاً لأشباه المثقفين والمتسلقين، وتلك كانت واحدة من أهم عثرات المرحلة، التي لا يفترض أن تجيّر كل مكاسبها للسبيل، ولا تحميله وزر خيباتها أيضاً.

هؤلاء الذين ينتحبون اليوم ويتحدثون عن فداحة خسرانه كراعٍ للشأن الثقافي، لم يُبد أحدٌ منهم من الشجاعة ما يكفي لتعضيد موقفه في كل المواجهات التي حصلت خلال الفترة الماضية، بقدر ما استثمروا حالة الضجيج لتلميع أنفسهم وارتقاء منابر التكريم، رغم مواقفه المشرّفة دائماً لنصرة المثقفين وتحسين أحوالهم، المعلن منها واللامعلن، حيث كان يعالج أغلب المآزق بحنكة ودبلوماسية لأنه يدرك معنى وأهمية ألا يتنازع المثقفون فيما بينهم فتذهب ريحهم، وهم الذين يزعمون رفع شعلة التنوير. حتى إتحاد الكّتاب الذي يُفترض أن يتقدموا به كمشروع خارج حضانة المؤسسة طالبوه به، أو بالأحرى توسلّوه، أن يؤسسه ثم ينصبّهم عليه كمتنفذين، وهذا هو ديدن المثقفين الذين أدمنوا الإستجداء واستمراء ثقافة المعاريض والعرائض، الذين لم يكلفوا أنفسهم لحظة المجابهة بين الوزير السابق إياد مدني وبعض مظاهر وأدوات التيار المحافظ إلا التوقيع على بيان بائس شكلاً ومضموناً.

وهو بالتأكيد على درجة من الإنتباه لما توسوس به دوائر (الآخر) وشراسته في اقتناص الصور الشائهة لإنسان هذه الأرض، الأمر الذي يفسر ما أبداه من اللياقة الأدبية وفتح الفضاء الثقافي بما يكفي ليعكس الوجه المشرق والمتحرّر للوطن، فسمعته -كإنسان- عند المثقفين العرب لا تقل أبداً عن صيته الداخلي، إذ لا يمكن حتى لمن لم يرتضوا طريقته في الأداء الثقافي إلا أن يعترفوا بخسارتهم لخصمٍ شريف. وما لم يُذكر من سيرته ومواقفه الشجاعة أكثر مما يتداوله المثقفون الآن تأسفاً وحسرة، بل أبلغ من كل رسائل التعاطف التي تصله عبر هاتفه وبريده، وإن كانت كل تلك المناقب لا تعفيه من قراءة الإطار التاريخي للتجربة، ومساءلة نفسه كمثقف وصاحب رؤية لا تتطابق بالضرورة مع المؤسسة رغم كونه أحد أبنائها، بل الإقرار بما فوّته هو شخصياً من فرص ثمينة، لتسميه الخلل البنيوي في وعي وممارسات المثقفين الذين لم يفهموا المتغيّر الثقافي الذي قدمه لهم على طبق من ذهب إلا كشكل من أشكال السلطة التي أدت أو تكاد إلى إماتة التجربة الجمالية، بسبب ميل السبيل نفسه إلى تكريس سياسة تُعرف في استراتيجيات المنتج الثقافي بالصناعة الثقافية.

لم تنتهِ الحفلة التنكرية للعبة التحولات الثقافية بعد، فما زال أغلب المثقفين يدسون وجوههم تحت الأقنعة، ويقيمون حد الإستنقاع في حالة الإنكار، خوفاً من سنوات عجاف قادمة. وبإمكان أيتام السبيل بعد الإفاقة من الصدمة أن يصرخوا بمنتهى الحزن في ليل طويل، فقد فقدوا بالفعل إباً حنوناً، ربما لأنهم أخلّوا بمعادلة سكارميتا ووصاياه فصوتوا بدون وعي ولا مبالاة على قتل أباهم الشفهي، نتيجة عدم إداكهم أو وعيهم بالغائية التاريخية لوجوده بينهم. وهذا مجرد مقدمة تنذر بتهاوي العائلة، ما لم يجدوا طريقة للتعامل مع الأم الثقافية، ووفق وصية سكارميتية أخرى لا تقل التباساً، أي تفادي الوقوع تحت وطأة حنانها الزائف، إذ يجب على المرء -برأيه- ألاّ يأكل فقط المعكرونة التي تطبخُها أمه. فهل بمقدورهم أن يفعلوا!؟

www.m-alabbas.com
[email protected]