في بلدٍ يتناهبه الفساد، ويخنقه الاستبداد، وتستحكم به حالة الطوارئ والأحكام العرفيّة والمحاكم الاستثنائيَّة منذ ما ينوف عن نصف قرن، ألا يغدو الكلام عن الوطن والوطنيّة مغامرةً شاقَّة وعصيبة، تجعل المتكلِّم محلّ استهتار وهزءٍ ومهاترة؟!. حين يغدو الوطن إقطاعاً برسم طبقة أو فيئة أو شريحة أو دين أو مذهب أو طائفة أو قبيلة أو عائلة...، ألن يتضاءل الإيمان بالوطن كعقد شراكة يجمع كلّ مكوِّناته القوميّة والعرقيّة والدينيّة والمذهبيّة والاجتماعيّة؟!. كيف يمكن لنا أن نتحدّث عن مواطن، بكلّ ما لهذه الكلمة من عمق وثقل ودلالة سياسيَّة واجتماعيّة واقتصاديّة وتربويّة ونفسيّة، في دولة الشعب الواحد، والحزب الواحد، والفكر الواحد؟!. حين يكون الوطن ضحيّة الفساد والأستبداد إلى الأبد، ألا يكون التضحية في سبيل الوطن ضرباً من ضروب خيانته؟. إذ لا معنى للمواطنة، دون وجود دولة وطنيَّة، تكفل وتضمن حريَّة وكرامة وحياة ورفاه كلّ مواطنيها. أن ترى الوطن مرعى ومرتع لناهبيه، ممن يتغنُّون بالوطن والوطنيَّة، قياماً وقعودا، ألا تغدو كلمة الوطن مرافدة لمعاني شتّى، أقلُّها بؤساً؛ السجن، الخوف، الكآبة، الضجر، القلق، اليأس...؟!. حين ينتاب المواطن شعور بأنَّه لا شيء في وطنه، وشأنه شأن الحشرة، وبل أدنى وأسوأ دركاً، وأنّ الوطنَ يخونه في اليوم ألف مرّة، فهل من الغرابة أن يلقي المواطن الحبلَ على غاربه، ولا يعنيه أو يسترعيه اضمحلال الوطن وتآكلهِ من الداخل، وأن يستبيحه الخارج؟!.
أوطانٌ يستفحل فيها الفساد والاستبداد حتَّى النخاع، تستيحل قبوراً مفتوحة لشعوبها. وطنٌ يغود وليمة طغاته، لا ريب أنه يستنبت الخيانة في نفوس شعبه. أوطانٌ لا تهفوا للحريّة، أقلّ ما يقالُ في شعوبها: إنَّها قطعان من العبيد!. أوطانٌ ترتعد أوصالها من الحريّة والديموقراطيَّة، تستحقّ خيانيتها، في مسعى تخليصها من ضلال وعمى الاستبداد والفساد وويح الطغاة.
فهمنا!. سورية في حالة صراع والكيان العبري العنصري الغاصب...الخ، لذا فهي مضطرّة لأن تواصل خنق الداخل بحالة الطوارئ والأحكام العرفيَّة، دفاعاً عن الوطن من الأخطار الخارجيَّة!. وهي مضطرَّة على إبقاء جبهة الجولان هامدة خامدة، وتحريك البيادق في لبنان وفلسطين!. والله فهمنا، إن quot;سلام الشجعانquot; بات يستوجب الارتماء في أحضان أنقرة وتوسُّلها واستجداءها تسخين قنوات الارتباط بين دمشق وتل أبيب!. والله، فهمنا، إنَّ المصلحة quot;الوطنيَّةquot; العليا، باتت تستوجب أن تطلق في الإعلام quot;الوطنيquot; السوري، والعربي، كلاماً زئيراً، مرعداً مزبداً، حول محاسن ومفاتن ومغانم الممانعة المقاومة، والمضي فيها حتّى آخر لحظة. وفي الوقت عينه، تُمرر الرسائل من تحت الطاولة التركيَّة إلى تل أبيب!. فهمنا كلّ شيء. المهم، أن يكفُّ النظام في سورية بلاه عن quot;المواطنquot; السوري!.
مرّت الذكرى السنويّة السابعة والأربعين للإحصاء العنصري الاستثنائي الذي جرى يوم 5/10/1962، وجرَّد 150 ألف كرديّ سوريّ من جنسيّته، وحرمته من كافّة حقوقه المدنيّة والإنسانيَّة. هذه الفعلة الشنيعة، قام بها النظام السوري، بناء على جملة من التوصيات التي قدّمها ضابط المخابرات السوري في المناطق الكرديَّة، شمال وشمال شرق سورية، المدعو محمد طلب هلال. ولا زال النظام الحالي مواظباً عليها. ومأساة ومعاناة الكرد السوريين، المجرَّدين من الجنسيَّة الذين وصل عددم لأكثر من 300 ألف شخص، لا زالت مستمرّة وتتفاقم. لا زالت النظام السوري، مستميتاً في خنق المناطق الكرديّة، وحرمانها من التنمية، وحصارها بالمراسيم الجمهوريّة والتشريعيَّة التي تدمِّر الحياة الاقتصاديّة في المنطقة، منها المرسوم 49 المشبوه، الذي يمنع على الكردي وضع حجر فوق حجر، في المناطق الكرديّة الحدوديّة، إلاّ بعد أخذ الإذن والموافقة من المراجع الأمنيَّة، وما أكثرها في سورية، ومن وزارتي الداخليّة والزراعة...!!. لا زال التعريب وحملات التغيير الديموغرافي تطال المناطق الكرديّة. زد على ذلك، أنَّ الأكراد في سورية، غير معترف بهم دستوريّاً، ومحرومين من حقوقهم القوميّة والسياسيّة والثقافيّة.
quot;نحتفظ بحقَّنا في الردّquot;. هذه العبارة، دأب النظام السوري على تكرارها، حين تعرَّض موقع عسكري سوري في لبنان، وحين تعرَّضت إحدى معسكرات الفلسطينيين في منطقة quot;تلّ منينquot;، في ريف دمشق، وحين تعرَّض موقع الكبر quot;النوويquot; قرب محافظة ديرالزور لقصف الطيران الإسرائيلي، وحين حلَّق الطيران الإسرائيلي فوق القصر الجمهوري باللاذقيّة آناء وجود الرئيس السوري فيه!. والسؤال: كيف كان يردّ النظام السوري على الهجمات الإسرائيليّة تلك؟!. يردّ بطريقتين. الأولى، خنق وترهيب وتعريب الداخل، وبخاصّة الحال الكرديّة السوريّة، وملاحقة المعارضيين السوريين، عرباً وأكراد. والثانيّة، محاولة الدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، عن طريق الوسيط التركي!. ولو كان لبنان فعل ذلك، ودخل منفرداً في مفاوضات مع إسرائيل، عبر أيّ وسيط، لكان النظام السوري، أقام الدنيا على رأس لبنان، وهزَّ أقطار العالم وأقطابها!.
تلقت عائلة كرديّة من أهلي قرية quot;جطل كويquot; التابعة لمنطق عرفين الكرديّة شمال سورية، تلقّت نبأ وفاة ولدها سليمان فاروق ديكو، الذي كان يخدم الجنديّة في الجيش السوري. وذلك بعد مضي 6 أشهر له في الخدمة. وبحسب ما نُقِل عن العائلة، أن المسؤولين في القطعة العسكريّة، أخبروهم: quot;إنّ ولدهم، فقد حياته، نتيجة سكتة قلبيّة أصيب بها، على خلفيّة الإجهاد في ممارسة الرياضةquot;!. رفضت العائلة استلام جثمان ولدها، وطالبت بكشف طبّي عليه. وأشارت إلى أنّ ولدها لم يكن يشكو أبداً من أيّ مرض. وبـquot;وفاةquot; ديكو، وفاة مجنّدين أكراد آخرين، يصل عدد المجنّدين الأكراد في الجيش السوري الذين فقدوا حياتهم في حوادث غامضة، إلى 35 جندي، منذ 2004.
35 جندي كردي في الجيش السوري لم يذهبوا ضحايا _ شهداء، على بطاح الجولان الحبيب، برصاص العدو الصهيوني الغاصب!، بل في ظروف غامضة، أثناء تأديتهم خدمة العلم الوطني، والدفاع عن الوطن!.
قالت بعض الأنباء quot;الكاذبة والمغرضةquot; أن جثث بعض أولئك الجنود quot;الشهداءquot; بدت عليها آثار التعذيب والصدمات كهربائيَّة، ما يشير إلى أنه قضوا نحبهم تحت التعذيب. إذاً، والحال هذه، إلى هذه الدرجة من الفظاعة والقتامة وصلت حال المواطنين الأكراد السوريين!. وحتّى في الجنديّة وخدمة العلم، هم قرابين العنصريين والفاشيين! والسؤال: لمصالحة من؟!.
هكذا تعاطي سوري مع الأكراد، الهدف منه دفعهم نحو التطرُّف، وإذكاء النزوع الانفصالي لديهم، وصولاً لئلا يجد الأكراد مناصاً أمامهم إلاّ استخدام العنف، لحماية أنفسهم من طغيان واستبداد النظام. وبذا، يضمن النظام السوري quot;عدوَّاًquot; داخليَّاً، يبرر له استمرار حالة الطوارئ والاحكام العرفيَّة لنصف قرن آخر، بعد الوصول لـquot;سلام مشرِّفquot; مع إسرائيل. يعني، لا يوجد أيّ تفسير آخر، لكل هذا الاستهداف اللاحق بالأكراد السوريين من قبل النظام السوري. وإنْ كان ثمّة من يمتلك تفسيراً آخر لهذا الغبن والظلم المتراكم والمتواصل على الأكراد من قبل النظام، فليأتنا به.
مقتل 35 مجنَّد كردي في الخدمة العسكريّة، لم يحرّك في الدكاكين الخردة السياسيّة الكرديّة في سورية، ساكناً. لا اعتصام!. لا بريقة تنديد مشتركة لوزارة الدفاع؟!. لا برقية تنديد مشتركة للقائد العامّ للجيش والقوّات المسلَّحة؟!. لا برقيّة تنديد مشتركة للمنظمات الدوليّة، والطلب منها التحرّي والتقصّي عن هذه quot;الوفيّاتquot; الغامضة؟!. لا تحريك للرأي العام السوري؟
هذا الصمت، يكشف مدى جدّيّة واحترام هذه الدكاكين، حيال الشباب الكردي السوري، ودماءهم؟!. هذا الصمت، بديهي، أنّه سيدفع النظام للمزيد من التمادي في الانتقام من الاكراد السوريين، على خلفيّة انتقاضتهم في آذار 2004!. انتقام، شمل كلّ شيء. الاعتقال، والقتل تحت التعذيب، قتل رجال دين ووجوه اجتماعيّة، اعتقال مثقفين وسياسيين وحقوقيين، اعتقال أطفال ونساء، حرمان من التنمية، وإعلان حرب اقتصاديّة على المناطق الكرديّة، قتل الشباب الكردي في الشوارع، قتل الشباب الكردي، أثناء الخدمة الالزاميّة... وما خفي كان اعظم...!!. ثمّ يقول لك، عتّاة تجّار الخردة في تلك الدكاكين: إن هذا الكلام، quot;تطرّف، ولا عقلانيّةquot;، ويعتبرون الجبن والتخاذل وقبول المهانة، والاستهرار بكرامة الشعب الكردي، ولقمة عيشه، ودماء شبابه، هي العقلانيّة والواقعيّة...!. ولعمري أنّه قمّة التسويف والتمييع والتجذيف بحقّ الشعب الكرديّ في سورية، وقضيته العادلة!. هذا النفر من quot;العقلانيينquot;، كان ولمّا يزل، يتحدّث، قياماً وقعوداً، عن هدر دماء الشباب الكردي السوري، في ساحات الشرف والكرامة والمقاومة الكردستانيَّة، خلف الحدود!. في حين، لا تهتزّ لهم شعرة، وهم يرون 35 مجنّد كردي، يقتلون أثناء خدمة وحماية الوطن!
اللافت، أنّ لا مثقف عربي سوري شقيق، كتب بضع كلمات في عاقبة هؤلاء المجنّدين؟!. ولا حزب سياسي عربي سوري، مما يُقال مجازاً أنهم معارضة سورية، أصدر بياناً حول عاقبة هؤلاء المجنّدين السوريين!؟. وهنا، تبدوا البطانة الوطنيّة، جليّة، وعلى المحكّ، في تعاطي النخب السياسيّة العربيّة السوريّة، التي تعتبر نفسها معارضة!. لكن، ماذا تقول في جمهرات من quot;المعارضينquot;، أكراداً وعرباً وآشوريين، يستهويهم الكلام عن الوطن والوطنيّة والمواطنة...، دون ان يجروا جردة حساب لتصرفاتهم، وصمتهم حيال جرائم ترتكب بحقّ شباب، هم جزء من شباب الوطن!؟.
كاتب كردي سوري
[email protected]
التعليقات