اوضحت في مقالات عديدة سابقة ومنذ الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003، بان العملية السياسية التي جاء بها الاحتلال باطلة لانها مبنية على احتلال باطل فاقد للشرعية الدولية. وبغض النظر عن هذا الموقف فان الاحتلال هو امر واقع يتعامل معه القانون الدولي والمجتمع الدولي ويحدد واجباته وحقوقه لحماية حقوق الشعوب ووضع حد لتمادي قوات الاحتلال في خرق حقوق الانسان والمعاهدات والمواثيق الدولية. وعلى هذا الاساس صدرت قرارات عديدة من الامم المتحدة للتعامل مع هذا الامر الواقع.

ورغم كل القيود التي فرضها القانون الدولي على قوات الاحتلال الامريكي، الا انها تمادت في انتهاكاتها السافره لابسط المبادئ الانسانية والاتفاقيات الدولية واهمها اتفاقيات جنيف لسنه 1949. ومن جملة الانتهاكات الخطيرة هي بناء عملية سياسية على اسس المحاصصة الطائفية والعنصرية بما لايأتلف مع اسس الديمقراطية الليبرالية السائدة في العالم، بل ان اي نهج طائفي او عنصري محرم دوليا لما ادى ويؤدي الى كوارث الحروب الاهلية في العالم.

ان جميع الاحزاب والقوى والشخصيات السياسية الدينية والاثنية التي اعتمدتها امريكا لمساعدتها في ادارة البلاد هي قوى دكتاتورية مستبدة بطبيعتها مع ذاتها، فكيف تستطيع تقبل الاخرين للمشاركة معها في نظام ديمقراطي تعددي (فاقد الشئ لا يعطيه). وها هي تسعى الان بشتى الوسائل الممكنة، ومنها الانتخابات، للاستحواذ على السلطة وقمع الاخرين والتحول الى نظام ديني او عنصري شمولي.

ان تداعيات العملية السياسية في العراق بالوقت الحاضر من خلال تصفية اصدقاء الامس وخصوم اليوم من السياسيين لغرض الانفراد بالسلطة وبناء نظام سياسي ديني طائفي (ثيوقراطي) على غرار النظام الايراني القائم، يتأكد من خلال عمليات ما يسمى quot;بالاجتثاثquot;، اعتمادا على المادة (7) من الدستور العراقي وقانون الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة رقم 10 لسنة 2008.

وبغض النظرعن موقفنا المعلن من العملية السياسية ودستورها quot;الجامدquot; الذي شرع في ظروف احتلال استثنائية يمر بها العراق، مما جاء بقواعد لاتخدم وحدة العراق ومستقبله السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وكذلك موقفنا من قانون المسائلة و العدالة quot;السيء الصيتquot;، انما جاء لتكريس اجتثاث فكر سياسي وابعاد وحرمان من يحملون هذا الفكر من حقوقهم المشروعة، دون الاكتراث لمواقفهم وسوابقهم السابقة، مما يتنافى ذلك مع مبادئ العدالة والاعلان العالمي لحقوق الانسان لعام 1949، ارى ان شرعية الاجتثاث الحالي معدومة تبعا لدستور وقانون المسائلة والعدالة للعملية السياسية وقواعد الاخلاق المعروفة.

1-عدم الشرعية الدستورية:
جاء بالمادة -7-اولا- من الدستور العراقي ما يلي:
quot;يحظر كل كيان او نهج يتبنى العنصرية او الارهاب او التكفير او التطهير الطائفي، او يحرض او يمهد او يمجد او يروج او يبرر له، وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه، وتحت اي مسمى كان، ولا يجوز ان يكون ضمن التعددية السياسية، وينظم ذلك بقانونquot;.

ولغرض تطبيق هذا النص لابد من صدور قانون لغرض تنظيمه، اذ لا يمكن تجزأة النص والعمل بجزء منه واهمال الجزء الرئيسي الذي من شأنه ان يوضح ماهية العنصرية المقصودة؟ وهل ان اي حزب قومي يعتبر عنصري؟ ام يقتضي ان يكون للحزب القومي نهج خاص لكي نعتبره عنصريا؟...الخ.
وما هو الارهاب؟ ولا سيما لا يوجد لحد الان تعريف دولي دقيق للارهاب، مما يجعل كلمة الارهاب فضفاضة لايمكن الاخذ بها كقاعدة قانونية للعقاب لان ذلك يتعارض مع مبدأ الشرعية الجنائية quot;لا جريمة ولا عقوبة الا بنصquot; التي اوجبتها جميع القوانين الجنائية الدولية والوطنية والاعلان العالمي لحقوق الانسان.
وما هي الطائفية والتمجيد والترويج لها..؟ اليست الاحزاب الحاكمة بالوقت الحاضر احزابا طائفية؟ ألم تمارس نفسها التطهير الطائفي/ العرقي وتمجد وتروج وتبرر للطائفية والعرقية..!؟
ان تجزأة النص وتطبيقه بالشكل الذي ذهبت الية ما سمي quot;بهيئة المسائلة والعدالةquot;، كان عليها من باب اولى ان تقوم باجتثاث جميع اطراف العملية السياسية الفاعلة في السلطة لانها كيانات تتبنى النهج الطائفي والعنصري، وتروج له وتحرض عليه وتسبح بحمده..!

وان ما يؤكد النهج المذكور في تطبيق النصوص الدستورية (عدم جواز تجزأة النص) هو ما عملت به السلطة القائمة في العراق بخصوص تطبيق احكام المادة -18-رابعا- من الدستورالتي نصت quot;يجوز تعدد الجنسية للعراقي، وعلى من يتولى منصبا سياديا او امنيا رفيعا، التخلي عن اية جنسية اخرى مكتسبة، وينظم ذلك بقانونquot;

لو اختارت السلطة القائمة في العراق بتطبيق النص المذكور وعدم الاكتراث الى جملة quot;وينظم بقانونquot;، لوجدنا ان اكثر من نصف المشاركين بالعملية السياسية، يلزم ان يكونوا خارجها. لانهم يحملون اكثر من جنسية ويشغلون مناصب مهمة في الدولة.
وان نهج السلطة في العراق هو الصحيح في تطبيق نص المادة -18-رابعا- من الدستور، لان هذا النص الذي يستوجب تشريع قانون لتنظيمه ضروري جدا لمعرفة وتحديد ماهية المناصب السيادية والامنية الرفيعة وغيرها من القواعد والاسس، وبالتالي فان عدم وجود مثل هذا التشريع يمنع من تطبيق النص الدستوري المذكور

وهناك نصوص دستورية اخرى عديدة مشابهه التي تستوجب تنظيمها بقانون ولا يمكن تطبيقها الا بصدور ذلك القانون، وهذا نهج متبع في جميع دساتير العالم وانظمتها القانونية.

ان النهج الذي اتبع في تطبيق المادة -7- من الدستور العراقي قبل ان تنظم هذه المادة بقانون هو خرق لاحكام الدستور والكيل بمكيالين في تطبيق احكام الدستور، ناهيكم عن عدم شرعية الجهة التي اعتمدته باسم quot;هيئة المساءلة والعدالةquot;، كما سنأتي الى ذكره.

وأجد هنا لا بد من الاشارة الى الخروقات التي تمارس لاحكام الدستور من مختلف السلطات في الدولة، بدون اتخاذ اي اجراءات قانونية بحق مرتكبي تلك الخروقات التي تشكل جرائم خطيرة، وبالرغم من ان هذه النصوص الدستورية المخترقة واضحة وضوح الشمس ولم يوجب الدستور قوانين لتنظيمها.

ان اغلب احكام الباب الثاني من الدستور المتعلقة بالحقوق والحريات مخترقة تماما وعلى سبيل المثال:
أzwnj;-عدم احترام حرمة المساكن ودخولها وتفتيشها والتعرض لها بدون قرار من القاضي المختص(المادة 17-ثانيا).
بzwnj;-عدم تكافؤ الفرص المكفولة للعراقيين (المادة 16).
تzwnj;-عرض المتهمين الابرياء عل شاشات الفضائيات قبل ادانتهم من المحاكم المختصة (غير الاستثنائية الفاقدة للمعايير الدولية) (المادة-19-خامسا).
ثzwnj;-حجز او توقيف الاشخاص اكثر من 24 ساعة بدون قرارات من القاضي المختص (المادة -19-ثاني عشر وثالث عشر).
جzwnj;-عدم كفالة الدولة للاسرة والفرد- الضمان الاجتماعي والصحي والعمل والسكن والتعليم والتاهيل ورعاية المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة (المادة 30)
حzwnj;-ممارسة التعذيب الجسدي والنفسي والمعاملة غير الانسانية من قبل اجهزة الدولة المختلفة.
خzwnj;- تكوين المليشيات العسكرية خارج اطار القوات المسلحة (المادة 9-)

وهنا اود ان اتسائل ما هو الغرض من التجاوز وتطبيق احكام المادة -7- من الدستور بالرغم من عدم تشريع قانون منظم لها، بينما تهمل نصوص دستورية اخرى لا تحتاج الى اي قانون لتنظيمها، وتشكل اختراقها جرائم جنايات خطيرة؟!

ان الهدف واضح للقاصي والداني وهو الانتقائية في تطبيق نصوص الدستور والكيل بمكيالين لتحقيق مارب سياسية طائفية وتصفية الاخرين للانفراد بالسلطة.

2-عدم الشرعية القانونية:
لقد شرع قانون الهيئة العليا للمسائلة والعدالةرقم 10 لسنة 2008 وفق المادة 135 من الدستور العراقي وحلت هذه الهيئة محل الهيئة العليا لاجتثاث البعث.
وقد اشترط هذا القانون لغرض تطبيقه وجود هيئات رئيسية هما الهيئة العليا للمسائلة والعدالة و الهيئة التمييزية. وهاتان الهيئتان احدهما مكملا للاخرى، اي لا يمكن تطبيق القانون في حالة عدم وجود احدهما وكما سنرى. وحال هذا القانون هو حال اي قانون للمرافعات المدنية او الجنائية، اي ان عدم وجود هيئات التحقيق ودرجات المحاكم المنصوص عليها في القانون تجعل من القانون حبر على ورق وغير قابل للتطبيق، لحين تشكيل جميع هذه الهيئات التحقيقية والقضائية. اذ لا يمكن، وبشكل مطلق، اتخاذ اي اجراءات تحقيقة وقضائية من جهات لم يحدد القانون طبيعة واجباتها واختصاصاتها. وان اتخاذ اي اجراء من قبل اي جهة خلافا للقانون، تعتبر باطلة، وقد تشكل جريمة جنائية تستحق العقوبة والتعويض.

نأتي الان الى قانون المسائلة والعدالة المذكور، فانه قد حدد هيئتين رئيسسيتين تعمل على تطبيق القانون وهما:

اولا: الهيئة الوطنية العليا للمسائلة والعدالة التي حلت محل الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث (المادة -2-اولا). وهذه الهيئة مؤلفة من سبعة اعضاء بدرجة مدير عام، يلزم ان يكونوا من اصحاب الخبرة السياسية والقانونية. والخبرة القانونية مهمة جدا مما يقتضي ان يكون العضو حاصلا على درجة البكلوريوس في القانون على الاقل، وله ممارسة فعلية في مجال القانون مدة لا تقل عن عشر سنوات ويفضب ان يكون قاضيا او مدعي عام من الدرجات العليا. وهذه الهيئة لا يمكن ان تمارس واجباتها الوظيفية، الا بعد موافقة مجلس النواب بالاغلبية البسيطة، ويصادق عايها مجاس الرئاسة (المادة -2-رابعا).

تقوم هذه الهيئة باجراءات الاجتثاث (المادة -1-رابعا)، وهي الجهة الوحيدة المخولة بموجب القانون باصدار قرارات الاجتثاث واصدار التعليمات والتوجيهات اللازمة لتفعيل الهيئة وتحقيق اهدافها (المادة-2-ثالثا).

ان عدم الموافقة على تشكيل هذه الهيئة من قبل البرلمان العراقي لحد الان، يجعل من قانون المسائلة والعدالة غير قابل للتطبيق، وان اي قرار يصدر بالاجتثاث من اي جهة سواءا من موظفي الهيئة او خارجها، يعتبر باطلا بطلانا مطلقا من الناحيتين quot;الشكلية والموضوعيةquot;، وقد يترتب على اصداره مسؤولية جنائية ومدنية.

ثانيا: الهيئة التمييزية: وهي مكونة من سبعة قضاة تسمى بهيئة التمييز للمساءلة والعدالة، يرشحهم مجلس القضاء الاعلى ويصادق عايهم مجلس النواب (المادة 2- تاسعا). يجوز الطعن بقرارات الهيئة العليا للمساءلة والعدالة من قبل المتضرر من القرار خلال مدة (30) يوما من تأريخ تبليغه بالقرار (المادة 15). وتصدر هيئة التمميز قراراتها بالاعتراضات الواردة اليها خلال مدة لا تزيد عن (60) يوما. وتكون قراراتها قطعية وباته (المادة 17).

لقد شكلت هذه الهيئة وصادق عليها مجلس النواب مؤخرا وبعد صدور القرارات بالاجتثاث من قبل جهة وهمية اطلقت على نفسها quot;هيئة المساءلة والعدالةquot; التي لم يصادق عليها مجلس النواب. لذا فان انبثاق الهيئة التمييزية وبدون وجود لهيئة المسائلة والعدالة، يجعل من القانون معطلا ولحين تشكيل هذه الهيئة (هيئة المساءلة والعدالة). وكما اشرنا سابقا ان الهيئتين احدهما تكمل الاخرى ولا يمكن تطبيق القانون في حالة عدم وجود احدهما.

وارى ان على الهيئة التمييزية ان تصدر قرارها بابطال جميع القرارات الصادرة بالاجتثاث لصدورها من جهة غير مخولة قانونا، وبالتالي فان هذه القرارات تفتقر للشروط الشكلية والموضوعية في اصدارها. واعطاء الحق للمتضررين من هذه القرارات بمقاضاة الجهات المسؤولة عن اصدارها وفق القانون.

ولو افترضنا جدلا ان الهيئتين (هيئة المسائلة والعدالة والهيئة التمييزية) موجودتين فعلا وقد صادق عليهما مجلس النواب ومجلس الرئاسة، فان توقيت اصدار مثل هذه القرارات بالاجتثاث قبل حولي ستة اسابيع من تأريخ الانتخابات، امر يدعو للريبة، ويؤكد نزعة الانتقام والتفرد والاستبداد بالسلطة، اذا ما علمنا ان المدة المقررة للاعتراض على قرار الاجنثاث هي (30) يوما من تأريخ التبايغ، وان للهيئة التمييزية الحق بدراسة القضية والبت فيها خلال مدة (60) يوما. وهذا يعني ان قرارات الهيئة التمييزية في الاعتراضات المقدمة اليها قد لاتصدر قبل موعد الانتخابات؟!
حقا ندعو من الله ان يكون في عون الشعب العراقي من نزعات الانتقام المدمرة السائدة حاليا في العراق.

3-عدم الشرعية الاخلاقية:
لقد اثبتت التجارب في العالم، ان بناء الدولة الديمقراطية الليبرالية التي تتميز باطلاق الحرية الفكرية والسياسية والمذهبية وحرية الاختيار عن طريق صناديق الاقتراع وبناء نظام اقتصادي ليبرالي وتداول السلطة سلميا والفصل بين السلطات، لابد ان تكون مبنية على اسس الانفتاح والمصالحة الوطنية والتسامح ونبذ روح الانتقام والثأر.

الا ان ما يجري في العراق منذ الاحتلال ولحد الان هو عملية سياسية طائفية وعنصرية لا تأتلف ومبادئ الديمقراطية الليبرالية. وان تداعيات العملية السياسية بالوقت الحاضر، هي تحصيل حاصل للاستئثار بالسلطة من قبل كيان طائفي معين ضد كيان طائفي اخر، وبالرغم من مشاركة الاطراف المراد اجتثاثها في العملية السياسية منذ البداية وصياغة الدستور الجامد الذي لا يخدم وحدة العراق ومستقبله.

لذا فان ما يجري في العراق بالوقت الحاضر من تصفيات جسدية وفكرية وسياسية وطائفية لاصدقاء الامس، هي ليست انتهاكات لاحكام دستور وقوانين العملية السياسية فحسب، وانما هي خرقا للمبادئ الاخلاقية.