قلناها ونقولها مجددا، إن كركوك والموصل وغيرَهما مدنٌ عراقية لا يضير أهلها، كردا كانوا أم عربا أم تركمانا أم كلدآشوريين، أن ترتبط، إداريا، بكردستان أو بغيرها، أسوة بمدن قبلها سُلخت من محافظات وألحقت بمحافظات أخرى، دون ضجيج ولا حروب ولا خطابات عنترية فارغة.

فلم تخرَبْ الدنيا حين سلخ مولود باشا مخلص ناحية تكريت من قضاء سامراء، وجعلها قضاءا مستقلا، في الخمسينيات من القرن الماضي. رغم أن التكارتة خرجوا يومها، عن بكرة أبيهم، فرحين بالحرية، ومنددين بالاستعمار السامرائي الطويل، هاتفين (تكريت صارت قضاء على عناد سامرا)، ولم تمض ِ سوى أسابيع قليلة حتى استعاد الشعب التكريتي المستقل عُرى الأخوة والمودة والسلام مع الشعب السامرائي الشقيق.

ثم لم تقم القيامة يوم نهض صدام حسين فاتخذ من تكريت عاصمة ً لمُلكه، واستحدث لها محافظة باسم صلاح الدين، وجعلها أم المحافظات التي أكلت عديدا من الأقضية والنواحي التي كانت تتبع،إداريا، محافظات بغداد والموصل وكركوك.

وبما أن جماعة (شيلني وأشيلك) فرسان َ نظام المحاصصة الجديد الذي أرسى بول بريمر قواعده الهشة َعلى كثبان رمال ٍمتحركة، يؤمنون بأن الجيب واحد، وأن الأكل بصمت أفضل وأسلم من الأكل بطنطنة وجلبة وفضائح، وأن القسمة بالكتمان أسلمُ عاقبة منها علنا على شاشات الفضائيات المجاهدة، فمن الغباء المحزن هذا التناطح العجيب بين شركاء الحزام الواحد على عروبة كركوك أو كرديتها أو تركمانيتها، وعلى تابعية الموصل وما حولها، ومحاولة فرض الرأي بالقوة، وبفرك الأنف، ولي الذراع.

ففي هذا الجدل العقيم الخالي من الوطنية والديمقراطية التي يزعمون أنهم متمسكون بثيابها يكمن الخطر الكبير، لا على كركوك والموصل وحدهما، بل على عرب العراق وكورده وتركمانه، كلِهم، من (زاخو لحد الكويت) وإلى أجيال عديدة أخرى قادمة.


فكل تصعيد في عدائية الخطاب بين عرب كركوك وتركمانها من جهة وبين الجبهة الكردستانية من جهة أخرى، بشأن المناطق (المُختـَـلف) عليها، وليس (المتنازَع) عليها كما يزعم الإعلام اللئيم،يبعدها عن شوارب الطرفين، ويجعل منها قضية َعناد قومي عنصري ممجوج وخطير العواقب، لا قضية ً إدارية عابرة بين مدن عراقية، قد يكون أنفعَ لغالبية أهلها نقلُ ارتباطها الإداري من هنا إلى هناك، ضمن الدولة الواحدة، إن كانوا صادقين في ضجيجهم حول وحدة تلك الدولة، وديمقراطية نظامها الجديد، حتى وإن كانت غنية بالذهب الأسود الذي لا ينال منه أهلـُها الفقراء سوى أقل القيل.

والآن تعالوا نتناقش بصراحة، دون توتر وعنجهية وعصبية جاهلية متوارثة.
إن الظروف السياسية الواقعية المحيطة بالعراق وبإقليم كردستان وبالمنطقة عموما تجعل انفصال الكورد عن العراق إجراءا غير حكيم، على الأقل في المدى المنظور.
وقد أثبت الزمن، منذ انتفاضة آذار 1991 وإلى اليوم، أن القادة الكورد أنفسَهم، أكثر من غيرهم، لا يريدون التخلي عن وضعهم الحالي مع الدولة الأم. ليس لأنهم عاشقون متيمون بوحدة الوطن الواحد، بل لأنه وضع مثالي مريح لقادتهم، ومريح لمواطنيهم معا، ما بعده راحة. وبعبارة أكثر وضوحا يمكن التأكيد على أن الانفصال غير وارد في أجندة القيادات الكوردية، من الآن وحتى إشعار آخر.

والعروبيون الذين يروج أخبارا وهمية عن قرب ذلك الانفصال المزعوم، ويقرعون صباحا ومساءا نواقيس الخطر، ويدعون لإعلان النفير العام دفاعا عن شرف الوحدة الوطنية المهددة بالاغتصاب، إنما يهدفون إلى تعميق الحقد العنصري بين مكونات شعب العراق، وافتعال الأزمات، ونشر الفتن، بدفع ٍ من بقايا البعث والقاعدة ودول البذخ العربي المدرار، لعرقلة عودة أهل العراق المساكين إلى حياة البشر، وإبقاء صراعاتهم مشتعلة لا تنطفيء.

فاستقرار العراق، وحشدُ طاقات أبنائه وقدراتهم لتسريع التنمية والبناء أمور تعني، بطبيعة الحال، نهاية ً قاطعة وأبدية لأحلام البعثيين وحلفائهم القاعديين في عودتهم إلى السلطة وإحياء أمجادهم من جديد.

مناسبة هذا الكلام الثقيل على قلوب أشقائنا في الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة هو معركة التعداد السكاني في الموصل وكركوك، ومواقف الأطراف المتشابكة، منه ومن دعاته.
فلا يمكن أن يفهم المواطن العراقي البريء المستقل سرَ هذا الخوف المفتعل من التعداد، وهو يعلم بأن شعوب الله المتحضرة كلـَها تلجأ إليه، لأنه الوسيلة الأكثر إنصافا ونفعا لمواطني أية بقعة في العالم، لأنه يوفر معرفة علمية دقيقة بأعدادهم وأحوالهم وتفاصيل أمورهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، لتمكين الحكومات من وضع الخطط والبرامج الهادفة إلى رفع مستواهم وتنمية قدراتهم وتوفير احتياجاتهم.

لماذا، نحن عربَ العراق، شيعة ًوسنة، لا نتصرف بأريحية ووطنية وإنسانية، فنوافق على تخيير أكثرية السكان، في أية قرية أو مدينة من كركوك وما حولها، والموصل وما حولها، بين الانضمام لإقليم كردستان إن ثبت أنها كردية، وبين البقاء، إن ظهر أنها عربية، ضمن دولة العراق العربية المجيدة؟

أنا لا أقول هنا تنازلوا عن كركوك وعن الموصل أو غيرهما، ولا أقول امنعوها وتمسكوا بها حقا وباطلا، وأعدوا، لمن يطالب بشيء منها، ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، إنما أقول انزعوا من قلوبكم ظلامها، وأحسنوا الظن ببعضكم، وتصرفوا بحضارة وإنسانية وعقل، ولا تدعوا الأيدي اللئيمة تعبث بكم، وتدفع بكم إلى خراب البيوت.
أما نزاهة التعداد ومهنيتُه وطبيعته التنموية فلا أحد يخالفكم فيها. ولكن أليس في دوائر الحكومة وثائق وسجلات تمنع التحايل وُتبطل الشكوك؟.
إن الشعب العراقي ظل على مدى ثمانية شهور يترقب انتهاء معارك زعماء المصادفة، واتفاقـَهم على حكومة، ولو في أسوأ حالاتها وأتعس أشكالها، أسبوعا بعد أسبوع، ويوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة، دون نتيجة.

وكلما تراءى له أن الحل أصبح في متناول اليدين، وظن أن الغمامة زائلة، وأن زعماء المصادفة سوف يفون بوعودهم ويحققون أحلامه في الماء والكهرباء والدواء والأمن والأمان، يتطوع أشقاؤنا العروبيون النشامى لإطفاء هذا الأمل، وإعادة أهلنا إلى النفق المظلم الخانق الطويل. فلا تجعلوا من التعداد مسمار جحا الجديد، ولا تجروا على هذا الوطن الحزين مصائب أخرى فوق ما يحمل منها وهو كثير.
ولكي نكون أكثر تحديدا نقول، إن الدلائل كلـَها تؤكد أن الولايات المتحدة وإيران وسوريا والأردن والأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وحتى جيبوتي وجزر القمر ونيكاراغوا والواق واق حـزمت أمرها، جميعـُها، وقررت إعادة نوري المالكي رئيسا، أربع سنوات أخرى مقبلة. إذن لم يبق َ أمام العراقيين سوى القبول والسكوت، بالحسنى وبالتي هي أحسن.
ولكن هل يستطيع الماكي اجتياز بحار الظلمات وانتزاع موافقة الكورد دون التسليم بمطالبهم، ومنها، وبل في مقدمتها التعدادُ السكاني، لتقرير مصير المناطق المختلـَـف عليها؟ وإذا ما رضخ، وأمرُه إلى الله، ووَقع لهم وعودا موثقة بتنفيذها، هل سيقبل حلفاؤه المجلسيون والفضيليون والصدريون والبدريون وغيرُهم؟، وهل سيوافق خصومه العروبيون على الدخول في حكومته، وإطفاء الحرائق المشتعلة من ثمانية شهور؟

أشك في ذلك. إذن فاعتراض العروبيين على التعداد يدخل في لعبة جر الحبل بينهم وبين مموليهم من جهة، وبين المالكي وحلفائه الإيرانيين من جهة أخرى، من أجل تعجيزه وإفشاله، وإبقاء اللعبة مستمرة إلى ما لا نهاية.

وهذا يعني، ببساطة، أن المالكي لن يتمكن من تشكيل حكومة قبل إجراء التعداد، والتعداد لن يجري قبل إرضاء العروبيين، والعروبيون لن يرضوا قبل تدمير المالكي، والمالكي قاعد على قلوب الجميع، رئيسا منتهية ٌولايتُه، إلى أن يأذن الله بإجراء انتخابات جديدة، ربما بعد سنين وسنين.

ومرة أخرى نعود إلى القول إن الذي أدخلنا في هذه المحرقة هو بريمر وحلفاؤه العراقيون المتحاصصون. فلو أقمنا من البداية، بقوة الدبابات الأمريكية الغازية التي كان جميع فرسان المحاصصة يـُقبلون الترابَ الذي تسير عليه، دولة ًعراقية علمانية ديمقراطية، عادلة وعاقلة، تعطي كل ذي حق حقه، وتمنع الطائفية، وتحرم الاختلاس، وتضرب بقبضة من حديد كلَ من تسول له نفسُه تشكيل مليشيا، أو السطو على بنك، أو اغتيال صحفي، أو اغتصاب طبيبة، أو اختطاف مهندس أو طيار، لما وجدتْ مخابراتُ دول الأشقاء والأصدقاء موضع قدم في العراق الجديد، ولعادت الحياة إلى طبيعتها الآمنة في أسابيع، ولكانت عيونـُنا وأسماعـُنا لم ُتلوث بما تبثه علينا الفضائيات الفاسدة الممولة من أعداء هذا الوطن الذي يخيفهم بعلمائه وخبرائه ومبدعيه الكبار.

وبعد كل هذا الجدل العقيم، نعود إلى القول، أنْ لا مخرجَ من هذه الدائرة المغلقة سوى الحل الذي لا حل َغيره، وهو إعادة الانتخابات، لعل شعب العراق يستيفيق من غفوته، فيقلب الطاولة على جميع الذين خدعوه وكذبوا عليه، ويأتي بحكومة ليست على البال ولا على الخاطر.

شرط أن يرزقنا الله، وبسرعة، بموافقة الأمم المتحدة والبيت الأبيض والخارجية والدفاع والسي آي أي والموساد والمخابرات الإيرانية والسورية والبريطانية والفرنسية والكندية والتركية والمصرية والأردنية والسعودية والإمارتية والكويتية وحزب الله اللبناني وحماس والقاعدة وعزة الدوري ويونس الأحمد، فقط لا غير. وما هذه على الله بكثير!!!