صحيح كما يقال أن الموسيقى لغة الشعوب، فهي تخرج من القلب وتدخل إلى القلب مخُترقة كل الحجب والحواجز التي نصنعها بأيدينا. فيمكن بالموسيقى إيصال مالايمكن إيصاله بآلاف القنابل والمفخخات التي تقتل المدنيين في كل مكان. ببساطة شديدة هي أداة ثقافية تعكس ذوق محلي بلغة مفهومة، فهي ليست بحاجة لترجمة كباقي اللغات، بل يمكن أن يتفاعل معها أي شخص متذوق للفن. نعم، هذا كان انطباعي بعد زيارة قصيرة لأحد الأساتذة في الجامعة.

لقد كان (بنكت كارلسون) أستاذا ً في الجامعة في تخصص العمل الإجتماعي، وهو رجل سويدي في الستين من العمر. قمت بزيارته لغرض ما، فقام مرحبا ً بي وجلست معه في داخل الغرفة، فقد كان رجلا ً لطيفا ً. وبعد معرفته بأني عربي الأصل بدأ يلاطفني بكلمات عربية، فهو عاش ودرٌس في فلسطين فترة من الزمن. فهو يعرف الأطعمة العربية والموسيقى العربية. فقلت له ماتفضل من موسيقى. قال لي أحب أغاني فريد الأطرش، أغاني فيروز القديمة، عبد الحليم حافظ، أما أم كلثوم فهي ثقيلة علي، فهي بحاجة لجو خاص. وأردف بأن موسيقى منير بشير تشده. بعد ذلك، خرج من الغرفة لإحضار أوراق معينة، وما أن خرج حتى عاد بسرعة وقال نسيت شيئا ً. لقد قام بفتح اليوتيوب على أغنية نوال الزغبي وكافوري، مين حبيبي أنا، وخرج من الغرفة لإحضار الأوراق المطلوبة. لقد كنت أتطلع في الكتب المرفوفة في كل مكان، فإذا بلوحة زيتية لسوق عربي وناي قديم معلق وصور صغيرة لأشخاص من أفريقيا، وفتاة منقبة تحمل الورد، وفي الزاوية بعيدا ً، هناك لوحة معلقة للحرم المكي وصورة الكعبة في وسطه بشكل جميل. تخيلت للحظة ربما يكون مسلما ً. عاد (بنكت) ومعه الأوراق، سالته عن حبه للشرق وهل قام برحلات هناك. نعم قال، لقد زرت العراق 1969 اثناء الأحداث السياسية، وزرت الكثير من الدول، فقد كنت صبيا ً صغيرا ً يحب الموسيقى ويعزف ويدور حول العالم. قال سأسمعك أغنية أحبها، وأذا بها أغنية،تعيش فلسطين باللغة السويدية، وكانت صور الأطفال في اليوتيب لحرب تموز على لبنان تتابع مع الأغنية، فقال لي، وهو يشير للأطفال كرد على الحيرة التي بدت في عيني، في النهاية كلنا بشر. خرجت من غرفته ووعدته بأني سأبعث له موسيقى عربية جميلة على أيميله الخاص.

لقد كان الحديث مع (بنكت) جميلا ً، وبدأت أفكر عن الذي جعله يتعاطف مع قضية لدولة تبعد عنه الآف الكيلومترات. فكان الجواب الموسيقى، نعم الموسيقى فتحت الباب فدخلت مشاعر التعاطف والإحساس بالشعور الإنساني المشترك بعيدا ً عن الدين والعرق. تذكرت حينها شخصية كارلوس الذي كان يدافع عن فلسطين بطريقته الخاصه، وهل كانت طريقته تجدي نفعا ً؟ والآن لإلفات نظر العالم عما يدور في الشرق يقوم تنظيم القاعدة بالتهديد هنا وهناك لقتل أكبر عدد ممكن من الأبرياء للتأثير على تلك الدول في سياساتها. نعم قتل الأبرياء عمل سهل، أسهل حتى من العزف على الناي. تلك القلوب الميتة الجافة، عجزت أن تكون متذوقة للفن والموسيقى فاختارت الطريق الأسهل وهو قتل الأبرياء. فتعلم الناي يحتاج لشيء من الوقت،وصنع مفخخة لايحتاج إلا ليومين ومن ثم تجد من يمشي بالشارع، ومن هو عائد لأطفاله ومعه حلوى لهم ومن ومن. هذا يحدث في الشرق، وفي العراق خصوصا ً، وقد حدث بالغرب مرات عديدة وربما يتكرر.

هناك مشكلة كبيرة، وهي أن القاعدة والتيارات السلفية التي تعادي الغرب تجهل كيف يدور النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الغرب. فهم يعتقدون أن التهديد والوعيد وتفجير محطات القطارات، كما حدث في مدريد، أو التهديد بتفجير برج أيفيل، سوف يضغط على الحكومات لتغيير سياستها تجاه الدول الإسلامية. بالتأكيد هذا غلط. فلو كان هذا التهديد في البلاد الإسلامية ضد القوات الغربية سيكون فيه وجه للمناقشة، أما أن يكون في قعر دار أغلب الدول الغربية فهذا خطأ كبير. السبب هو أن الشعوب الغربية ليست كشعوبنا فهي تسستطيع أن تغير، وهي تستطيع أن تفعل، لكن هذا لايعني هي حرة مئة بالمئة، فهي إسيرة الميديا وصناع الرأي، وكلنا يعلم من يمسك بزمام الأمور هناك. فالتهديد والوعيد هي هدايا يقدمها تنظيم القاعدة لصناع الرأي لتأليب الشارع الغربي على قضايانا وما كانت النتيجة إلا صعودا ً مدويا ً لإحزاب اليمين العنصرية تهدد أكثر من أربعين مليون مسلم في أوربا وحدها. أما الضغط على الحكومات بتغيير سياستها فهذا خطأ ينم عن جهل بالنظام السياسي الغربي. فالحكومات الغربية مجرد واجهة لشركات رأسمالية عابرة للقارات، ولايتصور أحد إنها سوف تتخلى عن إمتيازاتها بتهديد أو بتفجير. فأصحاب رؤوس الأموال يجلسون في أماكن محمية في فللهم ومنتجعاتهم، ولا يهتمون حتى بالمواطن الغربي. الشيء الوحيد الذي يفكرون به هو ليس منع الخطر بل تجنبه بأقل الخسائر. فهم تعودوا أن لايكسبوا المال إلا بوجود خطر.

إذن، ما وصل (لبنكت كارلسون) عن طريق الموسيقى لم تستطع تفجيرات كارلوس أو تهديدات القاعدة أن توصله كرسالة للشعوب الغربية عن قضايانا. الإهتمام بالثقافة والرياضة وفتح لغة الحوار، هي السبيل الأمثل لإيصال صوتنا للآخر. فليست مشكلة الغرب أن لانملك أدوات الحوار أو كنا عاجزين أن ننتج ثقافة قائمة على الحوار. نعم، الغرب متعجرف، ويريد أن يتحاور بلغته وأدواته، ونحن لانستطيع أجباره على أن يحاورنا بلغتنا أو طريقتنا، فالغرب يمسك بأغلب خيوط مقومات التقدم، فهو يملك المعرفة التي لايوازيها لانفط ولاذهب ولا أي شيء. لكن يمكن أن ندعو عن طريق الثقافة لإيجاد لغة مشتركة للحوار. المشكلة هي أن ثقافتنا ليس لها بعد عالمي، فهي محلية ولاتحاور إلا نفسها. أما الآخر فنصنفه على إنه مسيحي أو كافر أو دار حرب وهكذا تقسيمات. فالحوار السليم المؤثر لن يتم من خلال المؤسسات السياسية والتجارية، بل من خلال التواصل بين الشعوب بالثقافة، بالفن، بالموسيقى، بالرياضة. يجب أن نمد الجسور لامع الحكومات، بل مع المواطن الغربي البسيط الذي يعيش يومه وله مواقفه تجاه حكومته وتجاه قضايانا. هل نفهم لماذا تريد إسرائيل تفعيل التطبيع الثقافي اكثر من السياسي؟ أو إصرار الولايات المتحدة على العنصر الثقافي في معاهدتها مع الحكومة العراقية؟ ذلك لأنهم يدركون أن الثقافة خير سبيل لإيصال مايريدون أن يوصلوه لكن بالنتيجة هي خدمة للمؤسسة السياسية الغربية.

بإختصار، يمكن قلب المعادلة على حكومات البلدان الغربية لا بالتفجيرات، بل من خلال تحريك الشعوب الغربية، وهي واعية بما يكفي لتفهم الوضع. الشعوب الغربية غير ميته، فهي تقرأ، لكننا لانكتب ولا نتواصل، فكيف سيفهمون قضايانا؟ كيف سيحسون ويشعرون بمأساتنا؟ فالأدب الأسباني يملأ المكتبات الغربية، حتى الأدب الافريقي، عدا الأدب العربي. لو تعلمون كم فلم ينتج ويعرض في الغرب يتحدث عن مأساة اليهود مع هتلر في الهولوكست. فهو جزء من تاريخ أوربا يعاد إنتاجه كل عام بأفلام عديدة. فهناك العديد أيضا ً من الحركات المعادية للرأسمالية والعولمة ومتعاطفة مع قضايانا، فكيف نقوم بتهديد مجتمعاتها، ولمصلحة من نجعل منهم أعداء لنا بالمجان. إذن، لم يكن (بنكت كارلسون) مسلما ً على طريقة المؤسسات التي عندنا، لكنه بالتأكيد مسلم بأخلاقه وسلوكياته ومشاعره، يتواصل ويتعاطف معنا فقط بلغة الموسيقى، وهذا أبلغ من صوت إنفجار بمحطة من محطات مترو في عاصمة غربية.

[email protected]