بداية أجد من الضروري التوضيح أنني لست من عشاق أستعراض الذات والحديث عن نفسي.. فأنا لست شخصية هامة أو احد العظماء، بل على العكس كنت ومازلت انسانا بسيطاً حلم بالعيش في غرفة منعزلة داخل أحد المساجد القديمة تعبيرا عن روحي الزاهدة المتصوفة، ولكني أحيانا أكتب بعض التجارب الشخصية التي أرجو ان تحتوي على المشتركات الأنسانية العامة المفيدة للناس.

كنت قبل مدة في سفرة سياحية الى احدى المدن الأميركية بصحبة أحد الأصدقاء، كانت أول سفرة لي مع صديق منذ ان غادرت العراق قبل 19 عاما، صديقي الذي سافرت معه عراقي - كلداني - مسيحي وانا مسلم، جمعتنا قيم الأخوة الأنسانية التي بفضلها تجاوزنا الأختلافات الدينية، وانطلقنا الى رحاب العلاقات الأنسانية التي تعلو على كل شيء اذا ماأمنا بها عن صدق ووعي.

صديقي الذي دعاني الى هذه الرحلة رجل أعمال تعرض بسبب الأزمة الأقتصادية الى خسارة مالية بحدود 4 ملايين دولار، ولديه حادث عائلي مؤلم جدا، ولكن رغم كل هذا أصر على تنظيم هذه السفرة من أجلي وترك عائلته واشغاله.. فقد أشفق على عزلتي واراد اخراجي منها ولو لعدة ايام، كنت في حيرة وحذر لاأعرف أي الحوارات أفتح معه وهو في هذه الحالة، وعلى العكس من التقاليد.. حينما حصلت له تلك الأحداث المؤلمة لم أتصل به خوفا من تحريك جروحه من جديد وأكتفيت برسالة صغيرة أرسلتها له.

لقد أنتصرت في داخله نزعة الحياة والفرح على نزعة الكآبه، وتجاوز بشجاعة محنته وخسائره المالية ومشاكله العائلية ببسالة المحارب الذي يعشق الأنتصارات، كنت طوال السفرة مشغولا في تحليل قوته الداخلية التي مكنته من الصمود بوجه المشاكل والبقاء واقفاً وتجاوز نكبة فقدان 4 ملايين دولار، والتعالي على جرح عائلي عميق.

في علم النفس توجد قاعدة تقول: ان المشاعر والأفكار الكئيبة السوداوية لها قدرة التكاثر وتفريخ وتوليد المزيد من مثيلاتها داخل النفس، ونفس الشيء مع الأفكار والمشاعر المفرحة السعيدة التي هي الأخرى تمتلك طاقة انتاج ما يماثلها في المضمون، ويبدو ان صديقي استطاع التخلص من أسر وقيود الأفكار والمشاعر الحزينة الكئيبة وامتصاص الصدمة بفضل اعتداده بذاته وعدم تركها نهباً للأحزان، وعندما يضع الأنسان ذاته فوق الأحداث والخسائر.. مؤكد ستصغر بعينه كل المصائب وتظل الأولوية لديه الحفاظ على الذات وعلى توازنها.

حظي السعيد عرفني على هذا الصديق الذي يقدس رابطة الصداقة بشكل اسطوري لايصدق، وفي هذه السفرة أكتشفت فيه ميزة جديدة وهي تحوله الى أب حنون لأصدقائه يهتم بكل تفاصيل حياتهم، ومشاعر الأبوة نحو الناس الأصدقاء تتخطى حدود الصداقة التقليدية وهي بحاجة الى طاقة هائلة على العطاء والكرم والتوازن النفسي.

عندما شاهدته زوجته يشتري بعض حاجيات السفر له ولي.. علقت قائلة: طوال عمرك تفكر بالأخرين، وكان عتاباً منها على اهتمامه الشديد بأصدقائه لدرجة تطغى أحياناً على اهتمامه بعائلته!

اثناء تواجدي في المطار فكرت.. كم هو جميل لو سافر الأنسان مع أمه، ويسيران معاً وهو ممسك بيدها وبين فترة وأخرى ينحي يقبل يدها ويسمع انفاسها وينظر بعينها فيرى صورته مرسومة في داخلها، الأم هي الكائن الوحيدة من بين جميع البشر تستطيع فتح كافة الحوارات معها دون ان يصدر منها كلاماً يجرح المشاعر، وهي الكائن الوحيد على وجه الأرض الذي تستطيع الحديث معه في جميع الأوقات دون ان يرفض بحجة تأخر الوقت أو الانشغال، تخيلت أمي تلاحقني بتعليماتها اثناء السفر، وتخيلت أنني ألقي برأسي على كتفها وأجهش بالبكاء من قسوة الحياة وغياب العدالة، ووحشية أكثرية البشر.

وأخيرا: من اجل منع سوء الفهم أو التفسير الخاطيء من قبل الجهلاء واصحاب النوايا الخبيثة.. أود الأشارة ان صداقي لرجل الأعمال هذا ليس لها علاقة بمصالح مالية معينة من قبلي، بل هي تعبير عن أحترام كبير لصديق نبيل يجسد أعلى درجات الأخلاص والشهامة، ولو كنت أبحث عن المصالح المالية.. لأستثمرت علاقتي بمعظم عناصر الحكومة العراقية وأحزابها الذين تربطني بهم معرفة قديمة منذ ان كنت أعيش في سوريا، ومرتبط بالمعارضة العراقية لنظام صدام، فبعد سقوط الدكتاتور كان بأمكاني أستثمار هذه العلاقة عن طريق مجاملة الاحزاب وافراد الحكومة بكتاباتي والأقتراب منهم وتحقيق المكاسب المالية وغيرها، ولكني من نعم الله عليّ خلقني عاشقا كبيرا للبساطة والزهد والتصوف ولاأظن يوجد أحداً يكره المال بنفس الدرجة التي أكرهه، وايضا أشكر الله الذي خلقني محاربا شديد القسوة للسلوك الأنتهازي.

[email protected]