منذ أن سقط النظام الوطني الملكي في العراق يوم 14 تموز/يوليو 1958. وذلك البلد العربي المشرقي ينتقل من حفرة ليقع في أخى أكبر منها، ويتخلص من مأزق ليدخل في كارثة!، فقد كنت الإنقلابات العسكرية وحالة عدم الإستقرار السياسي و المجتمعي هي السمة المميزة للعراق منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم وحيث عاد العراق في بداية القرن الحادي و العشرين ليكون بلدا محتلا مستباحا فاقدا للسيادة كما كان كذلك في مستهل القرن العشرين الماضي
؟ أي أن الأمور التطورية في العراق تأخذ طابعا رجعيا موغلا في الوحشية و التخلف، وبعيدا عن سرد و تحليل المتغيرات الهائلة في المجتمع العراقي و إنكفاء ذلك المجتمع وسيادة الأفكار و الرؤى و التيارات العدمية و الخرافية التي كانت مترسخة في قعر السلم الإجتماعي إلا أن الرفض الشعبي لها كان يقف حائلا دون إنتشارها بسبب تطور الحركة الوطنية العراقية منذ ثلاثينيات القرن الماضي و إنتشار الأفكار التقدمية التي وجدت لها موقعا راسخا في المجتمع العراقي وقتذاك وحيث ظهرت الأفكار التقدمية و كانت الآمال الشعبية بالتطور و محاكاة العالم المتقدم لها الأولوية في المجتمع الباحث عن فرص حياة متطورة جديدة وهو ما حدث فعلا في العهد الملكي وحيث ظهرت الأفكار الحديثة و تطوزرت الحركة الوطنية وبرز جيل طليعي من الشعراء و ألأدباء و العلماء في مختلف الميادين و إنطلقت المرأة العراقية لتخلع عنها لباس التخلف و تطور الأدب و الموسيقى وكان العراق من اوائل دول الشرق الأوسط التي دخلها البث التلفزيوني عام 1956 كما كان منبعا للشعر الحر برافديه العظيمين الشعراء بدر شاكر السياب و نازك الملائكة هذا غير جيل عظيم من كبار رموز الأدب العربي الحديث كالجواهري و الرصافي و الزهاوي و علي الوردي وطه باقر والعديد من كبار العلماء في مختلف المجالات العلمية و المعرفية وفي ظل نظام سياسي و إجتماعي كان يحث الخطى نحو التطور و التحديث و العصرنة إلى أن جاءت مرحلة الإنقلابات العسكرية و ظهور النزعات العشائرية ثم الطائفية المريضة لتعود العجلة إلى الخلف و تسجل الفاشية السياسية حضورها بعد تسلط البعثيين الذين كانوا مدرسة مبدعة في الإرهاب ودعم التخلف وتكميم الأفواه و توجيه المجتمع نحو وجهة نظر فاشية واحدة ألغت الجميع و كتمت أنفاس الشعب و شوهت قيمه الحضارية و الثقافية وزرعت البذور الحقيقية للعشائرية المتخلفة و للطائفية المريضة مما أنتج بالضرورة حركات سياسية ودينية ظلامية و متخلفة كانت موجودة أسسها الجنينية وبذورها السامة ولكنها كانت منطوية و منسية و معزولة قبل أن تتعزز مناعتها بتدهور الأوضاع العراقية خلال تسعينيات القرن الماضي وشيوع حالة الإحباط الشعبي و إنتشار ثلاثي الفقر و الجهل و المرض من جديد بسبب الحروب العبثية و السياسات المريضة لنظام البعث البائد الذي أوصل البلد لحالة الإفلاس التام في جميع الميادين بعد إنتهاء دوره الإقليمي المرسوم و تحوله لعاهة ستراتيجية و لرجل مريض ينتظر الغرب الخلاص منه و أعد العدة لذلك فعلا وهو ماتم فعلا و لكن بتكلفة إنسانية عالية جدا و مكلفة وفوق طاقة الشعوب، المهم إن عملية التخلص من نظام الإرهاب و التخلف الصدامي لم تكن عملية تطور طبيعية قام بها الشعب العراقي بل جاء وفق عملية جراحية معقدة تم فيها العديد من الإختلاطات و الإلتهابات التي أجهزت على العراق المترنح أصلا، ونتيجة لظروف الفراغ السياسي و الفكري الهائل التي طبعت العراق بعد الإحتلال الأمريكي لم يكن ثمة بديل في ضوء الزلزال العنيف الذي حصل سوى للجوء للجماعات الدينية و الطائفية و الظلامية التي تمكنت بفعل الظروف غير الطبيعية من التسلط و الوصول لمسارب السلطة بعد أن إستطاعت أحزاب التطيف أن تفرض وجودها بفعل حالة التخلف الفكري السائدة في المجتمع العراقي ولجوء نظام البعث ذاته للعملية الدينية في أخريات أيامه لتعويم نفسه كما حصل في قصة ( الحملة الإيمانية الكبرى عام 1994 ) و التي أنتجت فيما بعد أجيالا واسعة من الإرهابيين و الذباحين وجاء المشروع الطائفي المدعوم من النظام الإيراني ليكمل بصورة نهائية صورة الخرافة السائدة في العراق و ليعزز بالكامل مشروع تجهيل العراق و إفراغه من طاقاته الحية و إفراغه من مضامينه الحضارية و توجيه المجتمع و معاهد البحث و العلم صوب الخرافة و الميتافيزيقيا الرثة، وماحصل مؤخرا من فشل كبير لمهرجان ( بابل ) الفني الذي لم يتحقق هذا العام بسبب رفض حكومة ( بابل ) للنشاطات الموسيقية لكونها كما قالوا ( حرام )!!
وفي ذلك التحريم البابلي الجديد الذي يضاف لإنجازات الإدارة في البصرة التي لجأت لإجراءات مماثلة بسبب تخلف مجلس محافظتها القادم من مجاهل كهوف عصر الفتنة الكبرى!!!... الظلاميون في العراق في نعيم فالإحتلالين الأمريكي من الخارج و الإيراني من الباطن قد قدما أكبر الخدمات لأهل التخلف الطائفي المريع... إنهم يقتلون الفرح و يكرسون تقديس الكوابيس و المصائب و الأتراح.... فمن ينقذ بقايا الحضارة و التمدن في العراق؟
التعليقات