لم يبق من الديمقراطية التي تركها بريمر وراءه في العراق سوى شعارات مكتوبة بخط ٍ بائس على الجدران، وصور ٍملونة مزركشة لسياسيين لم تدخل الديمقراطية إلى بيوتهم، كل هذه السنين، لا من باب ولا شباك، لأنهم توارثوا الديكتاتورية (الأصيلة) من قرون.

في العراق الجديد تـلقـَّى وجهُ الديمقراطية الرضيعة ثلاث صفعات لا تحتمل. تمثلت الأولى في انزلاق القادة السياسيين في الخطأ العظيم حين تراكضوا، كلٌ في طريق، لاستقدام قوة خارجية تساعده على رفاقه وأشقائه الآخرين، بدل أن يحتكم لديمقراطيته المزعومة. فقد ارتمى الذين يدَّعون تمثيلَ شيعة العراق في أحضان الولي الفقيه، وجرى السُنة نحو دمشق وعمان والقاهرة والرياض طلبا للنجدة والتماسا لمعونات مالية وسياسية وإعلامية لمواجهة الخطوط الحُمر الإيرانية على زعيم قائمتهم المحاصر أياد علاوي. علنا ودون مواربة. بل في كل عودة لأحدهم من عاصمة شقيقة أو صديقة يتحدث في مؤتمر صحفي ويبشر المراسلين بانجازاته تلك، ويباهي بها، دون حياء.

والثانية تجسدت في ذلك الإصرار العجيب من قبل جميع المتحاصصين، دون استثناء، على المطالبة بـتشكيل (حكومة شراكة وطنية)، وهو الاسم الجديد المكتشَف للمحاصصة الطائفية التي ولد في أحضانها العراقُ الجديد، وما زال يرضع لبنَها، ولن يبلغ فطامَه منه قريبا، على ما يبدو. وهو ما ينسف الديمقراطية من جذورها. فأول مبادئها الأساسية، في عرف جميع الديمقراطيات في العالم، أن القول الفصْل في تداول السلطة بين المرشحين المتنازعين عليها، سياسيا وليس قـَبليا، هو أولا وأخيرا لصناديق الاقتراع، ويشكل الفائز فيها حكومته على هواه، ويعارضه الخاسر على هواه كذلك. فإما ديمقراطية وإما أي شيء آخر بديل.

أما الثالثة، وهي الأدهى والأمـَر، فقد جاءت في تمسك قادة الإسلام السياسي (الشيعي) بـ (شيعية) منصب رئيس الوزراء، مهما تكن نتائج الانتخاب. وهذه أكبر الكبائر التي تُرتكب في حق الديمقراطية وسمعتها وهيبتها وحرمتها غير المصون.

وليس معروفا ما كان سيفعله هؤلاء (الديمقراطيون) الجدد، وأحزابُهم الطائفية المتزمتة، لو فاز بالأغلبية غيرُ عربي أوغيرُ مسلم وغيرُ شيعي من العراقيين؟ هل سيسمحون لكردي - مثلا- أو تركماني أو صابئي أو مسيحي بأن يتولى منصب رئيس الوزراء، وأن يختارَ وزراءه بحرية، ووفق قناعاته وقناعات حزبه المنتصر، ثم ينتقلون، هم، طواعية وبهدوء وذوق رفيع إلى معسكر المعارضة في البرلمان العتيد؟.

الجواب معروف. ولأنه معروف إلى حد البكاء، فقد كان أحرى بهم أن يكتفوا بتحالفاتهم السابقة التي شبوا وشابوا عليها، وعرفوا مقاديرها بالدرهم والدينار، وأن يتقاسموا السلطة وفق حصصهم الطائفية والقومية والدينية والعشائرية الثابتة، ويوفروا على أهلنا ثمن معارك الانتخابات الباهض، من مال ودم، وكفى الله المؤمنين شرَ القتال.
وتكريسا للديمقراطية العراقية المبتكرة قفـَزَ المعسكرُ الشيعي فوق الحواجز الدستورية كلها، وقلب الموازين واحتال على نتائج الانتخاب حين استصدر من قضائه (المستقل) قرارا يرفض الاعتراف بشرعية تكليف القائمة الفائزة بأكثرية المقاعد في البرلمان بتشكيل الحكومة، ويخترع لهم قاعدة جديدة غير مسبوقة تقول إن الجهة التي ينبغي تكليفها بتشكيل الوزارة ليست هي الفائزة في الانتخابات، بل هي التي تصبح مقاعدها أكثر بالتحالفات التي تتم بعد ذلك.

والمحزن أن زعماء دولة القانون والمجلس الأعلى والتيار الصدري والفضيلة، وحتى دولة ُالولي الفقيه ذاتـُها، لم يكونوا في حاجة إلى ذلك الاستعجال في حرمان القائمة العراقية من حقها الدستوري، والتآمر لتحقيق ذلك. فهم عارفون جيدا أن العراقية لن تـُفلح، وستعتذر، وسيضطر رئيس الجمهورية لتكليف القائمة التي تليها في عدد المقاعد، وهي قائمة عضو ائتلافهم نوري المالكي ذاته. فأية ديمقراطية هذه، وأي ديمقراطيين هؤلاء؟

وأخيرا، وبعد سبعة شهور، بنهاراتها ولياليها، من المناوشات والمماحكات والمساجلات، صدَق نوري المالكي وعدَه الذي قطعه للجماهير على شاشات التلفزيون، حين أعلن أنه لن يعطيها. فقد تم ترشيحه وسقط الآخرون.

والحقيقة أن الانقلاب الدراماتيكي في موقف التيار الصدري، من المعارضة الشديدة إلى القبول الشديد، هو الذي أحدث هذه الهزهزة. ويقال إن السبب الحقيقي لذلك ليس الضغوط الإيرانية، كما أشيع، بل هو وعدٌ ناجز من قائد دولة القانون بإطلاق سراح المجاهدين الصدريين (المدانين بالتخريب والإرهاب) في البصرة وبغداد، مع بضع وزارات سيادية وبضع سفارات.

أما موقف المجلس الأعلى الذي ما زال يعارض، ويحلم بفرض مرشحه عادل عبد المهدي، وهو حلم بعيد المنال، فما زال يكتنفه الضباب، خصوصا بعد حضور أهم قيادييه، وهو هادي العامري قائد منظمة بدر، القوة الضاربة فيه، حفلَ الترشيح التلفزيوني، باسم المجلس ونيابة عنه.
وللمجلس تاريخ طويل سابق، على امتداد أيام المعارضة العراقية السابقة، في توزيع الأدوار على منتسبيه. فيضع رجلا هنا وأخرى هناك، فإن صارت الأمور إلى سواد تبرأ وقال إنه حضر مراقبا وليس فاعلا، وإن تكللت بالبياض سارع إلى مباركتها واستمرَأ خيراتها.


ثم جاء حزب الفضيلة، هو الآخر، فبشرنا بانقلابه على معارضته السابقة، وتفضل فطمأننا على وحدة الائلاف الوطني، معلنا أنه على طريق القبول بترشيح خصمه اللدود.
ورغم كل شيء، فإن هذا الترشيح المقلقل لم يحل لنا مشكلة، بل خلق أخرى غيرَها أكبر وأكثر تعقيدا. فلن يبايع السُنة مرشح إيران بسهولة، لا بموافقة رئيسها أياد علاوي، ولا من وراء ظهره، إلا بعد قبض الثمن المطلوب، وهو أشدُ مرارة على المالكي وحلفائه من كأس سُم. فإما أن يتجرعوه أو يَخرَبَ الملعبُ على الجميع.
فقد أكدت العراقية إثر اجتماع لقيادتها أنها لن تشارك في حكومة يشكلها المالكي. ومن السهل طبعا على القاريء اللبيب أن يدرك مغزى هذه المناورات. فالتهديد بالمقاطعة يعني التلويح بالعودة لحرب المفخخات والتهجير والقتل على الهوية. أما المشاركة فتعني ليَّ الذراع الشيعي العراقي، وكسر ذراع دولة الولي الفقيه، وأخذ َالمطالب غلابا، وبديمقراطية الخنجر والساطور.

أما الكورد فأمر مبايعتهم لنوري المالكي مرهون بكركوك والبيشمركة والنفط وغيرها من المطالب الثابتة التي لا تقبل أنصاف الحلول. فإن تمكن من إقناعهم بصدق وعودِه هذه المرة، وضمِن َ تنفيذ تلك المطالب، وأزال شكوكهم في احتمال كونه يـُظهر غير ما يُبطن، وفق مبدأ التقية، فقد يبايعونه، ولكن إلى حين وبصبر وترقب وأناة. فإذا ما تكشف لهم أنهم عادوا ليُلدغوا من جُحره مرة ثانية فسوف يقلبون له ظهر المجن، ويسحبون تأييدهم لزعامته، ويُسقطون حكومته، بالتحالف الجاهز والناجز مع خصومه الآخرين، لكي نعود من جديد إلى الحلقة الأولى من مسلسل الديمقراطية المغتصبة في العراق الجديد.

ولو فرضنا جدلا أن كل شيء سار على ما يرام، وفتح اللهُ على المالكي أخيرا بعبور بحر الظلمات، فولدت حكومته الجديدة بعد هذا المخاض الصعب، فهي لن تكون بأحسنَ حالا من حكومته السابقة، ولن يكون وزراؤها، أيضا، إلا مفروضين عليه من أحزابهم، بقوة المحاصصة، وليس بقوة الكفاءة والخبرة والنزاهة، ولن يتمكن، كما سبق، من طرد وزير سرق، ولا وزير فسَق، ولا وزير ثبت عجزه عن قيادة عنزتين. وسوف نعود، مرة أخرى، إلى سماع شكاواه المريرة من وزرائه الذين لا يَـقدر على حسابهم، ولا حتى على سؤالهم عما يفعلون.

وفي الأغلب الأعم فإن المتوقع أن يـَلصَق بشاشات فضائياتنا، أربعَ سنوات قادمة، كثيرٌ من وجوه حكومته السابقة. فباقر صولاغ الزبيدي- مثلا- بعد أن كان وزيرا للإسكان، ثم أصبح وزيرا للداخلية، ثم وزيرا للمالية، قد يصبح في الحكومة الجديدة وزيرَ صحة أو نفط أو دفاع، من يدري؟ وحسين الشهرستاني قد ينتقل من النفط إلى الخارجية أو الزراعة، والله أعلم. فلم يعد في العراق رجال.

من كل هذه المعارك الطاحنة نستخلص أن الغـُمة المحزنة الكبرى التي أهلّت علينا منذ أن وطيء بريمر ظهرَ الوطن العزيز، ما زالت مقيمة، وستبقى، طويلا، جاثمة على صدور العراقيين. وكلُ محاولات الترقيع الفاشلة لمأزق السلطة لن تـُخرج الوطن وأهله من مأزق إلا لتـُـدخلـَه وتدخلـَهم في مأزق آخر أشد ضيقا وحراجة، ما دامت اللعبة مخصورى بهذه الجحافل الأربعة، ولكل منها كيانه الخاص المستقل عن غيره تمام الاستقلال، ولا تلتقي مخططاته وأهدافه وبرامجه مع الآخر، لا من قريب ولا من بعيد.

وعاجلا أو آجلا سيصل الجميع إلى المأزق الأخير الذي صنعوه بأنفسهم لأنفسهم، ويعودون من جديد يبحثثون عمن يخرجهم منه بأي ثمن.
ودون لف ولا دوران، ليس أمام أحد منا ومنهم، للخروج من هذه الدائرة المقفلة، سوى خيارين اثنين لا ثالث لهما.
الأول إعادة ٌ جادة ونزيهة للانتخابات يُمنح الناخبون مهلة َعام لتحضير أنفسهم لخوضها، لعلهم يتمكنون من إعادة فرز مواقفهم وقناعاتهم، فيمنحون طرفا واحدا فقط أغلبية مريحة من أصواتهم تمكنه من تشكيل الوزارة منفردا، بقوة الدستور.

أو ربما، والله أعلم، تحدث المعجزة، فيتجمع الديمقراطيون والعلمانيون والتكنوقراط، ويقتحمون الانتخابات الجديدة بجبهة واحدة متماسكة، وهو أمر صعب ولكنه ممكن، فيكتسحون صناديق الاقتراع، وتقوم على أكتافهم دولة علمانية حازمة وحاسمة تغسل وجه الوطن من الدجل والغش والاستغلال والمتاجرة بالطائفة والقومية والدين.
وإذا لم يحدث هذا ولا ذاك، فلا مفر من شرب الدواء المر، لعلاج حال ٍ أكثر مرارة، وهو خيارُ الجمهوريات العراقية المتآخية الثلاث، إن كان فيه خلاص هذه الملايين البائسة من أوجاع ديمقراطية فاسدة انتهت صلاحيتها من سنوات.