يبدو أن الفشل أصبح يستحق بجدارةٍ أن تُعنون به محاولات الدولة التركية جرّ قوى إقليم جنوب كردستان في حربها ضد حزب العمال الكردستاني، هذا الحزب الذي يخوض كفاحاً مسلحاً منذ عام 1984، ضد واحدة من أعتى الديكتاتوريات العسكرية في العصر الحديث.

الخسائر الكبيرة التي تكبّدها الجيش التركي، ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي (الناتو) والثامن على مستوى العالم، في هذه الحرب التي تشارف على طيّ عقدها الثالث، وفشل جميع مساعي تصفية حزب العمال الكردستاني، رغم الدعم الأمريكي والإسرائيلي اللامحدود، والمتواصل إلى هذه اللحظة؛ كلها مؤشرات، قاطعة، على القوة الهائلة التي يمتلكها الحزب ومقاتلوه، وخسران الرهان على تصفيته والقضاء على مقاتليه، أياً كانت الطرق المسلوكة إلى هذا السبيل.

المسؤولون الأتراك يبذلون جهوداً مضنية على الساحتين الإقليمية والدولية، في هذه الآونة، ويلهثون وراء نظرائهم الأكراد في الإقليم لاستمداد العون والمساعدة، بهدف ضرب المقاتلين الكرد، المتحصنين في جبال قنديل، وquot;القضاء عليهم!quot;.


العديد من اللقاءات جمعت، في هذا الصدد، المسؤولين الأتراك بقيادات أمريكية وألمانية، في واشنطن وأنقرة، وهناك لقاءات أخرى، حسب ما أُعلن، ستجمعهم بنظرائهم في دمشق وطهران. الأطراف المشاركة في اللقاءات المذكورة لم تتردد في البوح عن أسباب عقدها والنتائج التي تمخضت عنها، أو التي قد تتمخض عنها في المستبقل. هذه الأطراف كرّرت على مسامعنا، من جديد، عداوتها المشتركة للعمال الكردستاني، وعزمها على تقوية وتعزيز التعاون في مجال القضاء عليه.

بعد أن حصلت تركيا، أو هكذا يبدو، على ما تريده من حلفائها الغربيين، وجّهت الأنظار صوب إقليم كردستان، باعتباره المحطة التي تسعى من خلالها العبور إلى جبال قنديل، المعقل الرئيسي للمقاتلين الكرد.

وزير الداخلية التركي بشير آتالاي التقى، في أربيل، برئيس الإقليم مسعود البارزاني ورئيس حكومته برهم صالح. هذه لم تكن زيارة آتالاي الأولى للإقليم، حيث كان قد غادرها خالي الوفاض في المرة السابقة، وكانت قبل أشهر، حتى إنه لم يُدلِ، حينها، ولو بمجرد تصريح عن نتائج لقاءاته بالمسؤولين، وأسباب مغادرته الفورية للإقليم، الأمر الذي أثار العديد من التكهنات، في البداية، حول خيبة أمل كبيرة أصابت الضيف وتبددٍ لآماله التي كان قد عقدها على مضيفيه، تبيّنت فيما بعد صحتها.

قراءة سريعة للتصريحات التي صدرت عن السيدين، البارزاني وصالح، عقب لقائهما، على حدة، بالوزير التركي تؤكد أن عقد تركيا الآمال على أكراد الإقليم، في حربها ضد العمال الكردستاني، مضيعة للوقت، ودوران في حلقة مفرغة. البارزاني قال عقب اللقاء بأنهم مستعدون لتقديم كل الدعم والمساندة إذا كان الأمر يتعلق بحل القضية الكردية، وفي هذا رسالة واضحة للدولة التركية، التي تعرف جيداً بأن مصلحة الشعب الكردي تكمن في بقاء الكردستاني والمقاتلين الكرد، لا في القضاء عليهم، وهي تعلم علم اليقين بأن القيادة الكردية في الإقليم مع هذا البقاء للكردستاني ومقاتليه وإن كانت لا تبوح بذلك علناً. برهم صالح، بدوره، قال بالحرف الواحد، ودون مواربة أو تورية: quot;يهمنا أن لا يشكل حزب العمال الكردستاني خطراً على دول الجوار، ولكننا نطالب الجوار باتباع المبدأ نفسه واحترام سيادة أراضينا وبلادنا ومراعاة القوانين الدولية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبلادناquot;. وهذا بحد ذاته، إشارة واضحة إلى استياء الحكومة الكردية من العمليات العسكرية التركية داخل أراضي الإقليم، ودعوة صريحة للمسؤولين الأتراك لأجل وضع نهاية لها.

مما لا شك فيه هو أن قيادة الإقليم تعي جيداً أبعاد ومخاطر اللعبة السياسية التركية، والنوايا المبيتة للمسؤولين الأتراك في توريطهم وجرّهم إلى مستنقع حربهم مع العمال الكردستاني، وزيف وبطلان ادعاءاتهم بالقضاء على المقاتلين الكرد سعياً وراء حل القضية الكردية. ثم إن الجميع يعلم بأنه إذما كانت تركيا راغبة في الحل فإن أبواب السلام مشرّعة على مصراعيها، لا سيما بعد قرار الهدنة الأحادية الجانب، الذي اتخذته القيادة الكردية الميدانية، في قنديل، في 13 آب الماضي، ولا يزال ساري المفعول حتى هذه اللحظة. وكان هذا القرار قد لاقى ترحيباً كبيراً من المسؤولين في الإقليم، وقاموا على إثر صدوره بمناشدة حكومة حزب العدالة والتنمية، بزعامة رجب طيب أردوغان، باقتناص هذه الفرصة السلمية المقدّمة من الجانب الكردي، والبدء في خطوات جادة نحو إنهاء الصراع، وفتح صفحة جديدة بين تركيا وأكرادها. أردوغان تجاهل هذه الدعوات والمناشدات، وكأنه أراد أن يردّ عليها بشكل غير مباشر، حين أعلن قبل أيام بأنه ليس في تركيا سوى لغة رسمية واحدة، قاصداً التركية طبعاً، وبأنه لن يسمح بتعليم اللغة الكردية في المدارس أو الاعتراف بها دستورياً.

أمام هذا الاستعلاء والنظرة الدونية السائدة في المجتمع التركي تجاه الشعب الكردي، وعدم التماس نوايا صادقة لحل القضية الكردية، من الطبيعي جداً أن تفقد قيادة الإقليم ثقتها بالدولة التركية، وأن تفكر ملياً بأهدافها وغاياتها من وراء محاولات إفراغ جبال قنديل من المقاتلين الكرد؟.

[email protected]