لوقائع التاريخ المحورية إرتباط كبير بتحولات بنيوية كبرى رسمت معالم طريق المستقبل، وفي تاريخ العرب المعاصر ثمة يوم حاسم إرتبطت أحداثه و ذكرياته بأحداث مؤثرة على المستوى القومي رسمت معالمها على الصورة السياسية للعالم العربي طيلة العقود الخمسة الماضيات و أرست وقائعا سياسية و إجتماعية و فكرية جديدة كان لها تأثيرها الحاسم في تشكيل الحياة السياسية العربية، لقد شاءت الأقدار و الظروف أن يرتبط تاريخ الثامن و العشرين من سبتمبر ( أيلول ) بحدثين جللين هزا العالم العربي و غيرا الكثير من نتائج إدارة الصراع الإقليمي و الدولي، ففي مثل هذا التاريخ من عام 1961 حدث الإنقلاب العسكري في دولة الوحدة المصرية / السورية التي كانت قائمة واقعيا و دستوريا و قانونيا منذ الثاني و العشرين من فبراير 1958 وهي الوحدة التي أدخلت أهل إنقلاب 23 يوليو 1952 في قلب العالم العربي بل و حملتهم لقيادة حركة القومية العربية في واحدة من أغرب تحولات الصراع المنهجي و الفكري في الشرق القديم، فضباط حركة يوليو التي أزاحت النظام الملكي و أسرة محمد علي عن حكم مصر و أقاموا النظام الجمهوري بعد تردد و عينوا اللواء محمد نجيب كأول رئيس لجمهورية مصر لم يكونوا من دعاة القومية العربية، كما أنهم لا يعرفون الشيء الكثير عن ثقافة الأحزاب القومية، بل كان تأثرهم واضحا بالوضع السياسي المحلي و الخاص في مصر و كان غالبية الضباط الأحرار من المتأثرين بحركة الإخوان المسلمين و منهم جمال عبد الناصر نفسه و حتى أنور السادات، كما كان بعضهم يحمل فكراوطنيا مصريا خالصا من أتباع مدرسة زعيم حزب مصر الفتاة أحمد حسين، فيما كان البعض من المتأثرين بالفكر اليساري أو من أتباع ( حدتو ) الحركة الديمقراطية الإشتراكية و منهم المقدم يوسف صديق أحد أبرز عناصر إنقلاب 23 يوليو وكذلك خالد محيي الدين، فيما كانت قناعات الغالبية العظمى منهم قناعات بورجوازية، أما أصحاب الفكر القومي أو البعثي فلا وجود واضح ومؤطر لهم في مصر آنذاك، ولعل معركة تأميم قناة السويس في عام 1956 ثم العدوان الثلاثي الذي أتبعه قد نبه الحكم المصري للبعد العربي و القومي خصوصا و أن الأوضاع في سوريا التي كانت المعقل الأبرز للفكر القومي و البعثي العربي كانت متوترة و متدهورة بدرجة خطيرة بسبب سياسة الإستقطاب الدولي و الصراع على السيطرة على سوريا من قبل الحكم الهاشمي الملكي في العراق الذي كان له أنصار و مؤيدين فيما كان المعسكر القومي/ البعثي في حالة صراع و تناحر ضد التوجهات الهاشمية و الأحزاب و الرؤى الدينية و الشيوعية أيضا التي دخلت على الخط بقوة أيام زعامة الرفيق خالد بكداش إضافة لظروف الصراع العسكري مع إسرائيل و تركيا أيضا مما جعل العمق الستراتيجي السوري وفقا لتوجهات القيادات العسكرية المسيطرة في الشام تتوجه نحو مصر في محاولة لتوسيع إدارة الصراع و الإستعانة بالثقل المصري الذي ظل غائبا عن التأثير منذ إنسحاب قوات محمد علي باشا من العمق السوري و الشامي بعد معاهدة لندن 1840 و تحجيم النفوذ المصري، وقد فوجيء قادة مصر وفي طليعتهم جمال عبد الناصر بالعرض الوحدوي المقدم من قيادات الجيش السوري و الذي إستطاع فرض خيار الوحدة فرضا و تحت سياسة الأمر الواقع، وتحققت الوحدة القومية بشروط مصرية أهمها إلغاء الحياة الديمقراطية و الحزبية و فرض النموذج المصري في مجتمع مختلف بالمرة وحل الأحزاب رغم أن تلك الأحزاب هي من عبأت الجماهير للوحدة و بشرت بها!!
أي أن فناء الوحدة كان واضحا منذ بداية إنبثاقها على أسس إستعجالية في ظل أسخن وضع سياسي و ستراتيجي شهده الشرق الأوسط في تاريخه الحديث وحيث كانت تصاغ و ترسم سياسات وخرائط الحرب الباردة بما فرضته من ظروف مأساوية تحققت في بعض البلدان كالإنقلاب الدموي العسكري في العراق في 14 تموز/يوليو 1958 الذي غير وجه العراق و المنطقة بنتائجه المأساوية البعيدة المدى ودور مخابرات دولة الوحدة المصرية السورية في تأزيم الأوضاع الدموية في العراق و الأردن و لبنان وحتى في جنوب الجزيرة العربية، المهم إن دولة الوحدة الإندماجية بعد تلاشي فرحة التنفيذ غرقت في المشاكل الميدانية المستجدة وفي الأخطاء السياسية و الإقتصادية وفي الإغراق في بناء دولة القمع و المخابرات و التصفيات وفرض النموذج الإشتراكي المتأزم دون دراسة ميدانية صحيحة لطبيعة القوى الإجتماعية و الإقتصادية ورغم محاولات الإصلاح وصرخات التحذير إلا أن المركزية الشديدة وغياب الديمقراطية قد أديا في النهاية للإنفجار الكبير فأنطلق الإنقلاب من أعلى الهرم السلطوي أي من مكتب القائد العام ( عبد الحكيم عامر ) وحيث قاد مدير مكتبه العقيد عبد الكريم النحلاوي ورفاقه من الضباط السوريين حركة التغيير و الإصلاح التي تطورت لإنقلاب عسكري أدى للإنفصال التام و طوي صفحة أول و آخر وحدةإندماجية عربية في التاريخ الحديث في 28 سبتمبر 1961 ليختط البلدان ( مصر وسوريا ) مسارات سياسية مختلفة بالمرة و ليكون الحدث بمثابة زلزال كبير هز قيادة جمال عبد الناصر القومية وترك جرحا لم يندمل في قلبه حتى لحظة وفاته بعد تسعة أعوام بالضيط منذ ذلك التاريخ كانت بمثابة أشد الأعوام إنفجارية في تاريخ العرب المعاصر....
28 سبتمبر 1970
في التاريخ أعلاه كان التطور الدراماتيكي الخطير الذي ظل متفاعلا منذ عقد سابق فقد دخل النظام المصري في مواجهة عسكرية مع إسرائيل في 5 حزيران/ يونيو 1967 أدت لنتائج كارثية ولهزيمة عسكرية وحضارية و سياسية ساحقة أدت لضياع سيناء و القدس وماتبقى من فلسطين التاريخية و الجولان!، وكانت هزيمة مرة وقاسية ألقت بظلالها على الوضع الإقليمي العام و رسمت أوضاعا نفسية صعبة و عقدت الموقف الدولي و توسعت إسرائيل جغرافيا و سياسيا و إعلاميا و عسكريا بدرجة لم تكن يحلم بها قادة المشروع الصهيوني الإستيطاني وهم يبشرون بمشروعهم الأسطوري ( من النيل للفرات أرضك يا إسرائيل )! وهو ما تحقق ميدانيا للأسف بسبب تركيز أنظمة المواجهة العربية ( سوريا و مصر ) تحديدا على الغلو في الإعتماد على البرامج الإستخبارية و القمعية و إلغاء و تهميش دور الإنسان العربي و الخلل الفظيع في إختيار العناصر القيادية على أساس الولاء و العصبية العشائرية أو الطائفية و ليس على أساس الخبرة، فمثلا كان القائد العام للجيوش المصرية وقتذاك ورجل النظام القوي و المتصرف الأوحد بشؤون الجيش و القوات المسلحة وهو المشير عبد الحكيم عامر لا يمتلك أية مواصفات قيادية حقيقية تؤهله لشغل ذلك المنصب الخطير سوى علاقته الخاصة جدا بجمال عبد الناصر و إطمئنان الأخير لولائه من أجل تأمين القوات المسلحة من أي إحتمالات إنقلابية!!
و تطول كثيرا مناقشة الأسباب المؤدية للهزيمة و تحتاج لمجلدات من المتابعة و الشرح و التعليل و التأويل وهو ملف تدارسه المؤرخون و الباحثون و أشبع بحثا رغم أن الرأي العام العربي الحالي ليس مهتما أبدا بأحداث الماضي القريب و تلك معضلة حقيقية..!، المهم إن إعادة بناء القوات المسلحة و محاولة تعويض آثار الهزيمة العسكرية المرة قد إستهلكت كثيرا من طاقة جمال عبد الناصر الذي حاصرته الأمراض الناجمة عن التوتر العصبي و النفسي الكبير منذ الإنفصال السوري تحديدا وداهمته أمراض السكر و الضغط و الشرايين و الأوردة و توابعهما مما جعل من صحته موضوعا خطيرا حاول النظام تغطيته بالصمت و التجاهل الإعلامي إلا أنه كان واضحا منذ نحر المشير عامر و تصفية بعض رموز دولة المخابرات و أتباع المشير من أمثال صلاح نصر و شمس بدران و صدقي محمود و قادة الطيران و بعض ضباط الصاعقة من أن الأوضاع العامة في مصر و النظام عموما بدأت تأخذ إتجاهات و منعطفات خطرة مع تصاعد الإنتفاضة الشبابية و الشعبية في ربيع 1968 و الضغوط النفسية الهائلة من أجل محاولة كسر الحاجز النفسي و تعويض آثار الهزيمة و محاولة الثأر للوصول لحلول سياسية بعد إثبات القدرة العسكرية على الردع وحيث بدأت حرب الإستنزاف و بدأ الإسرائيليون بتوجيه الضربات المؤلمة في العمق المصري و مناطق الحشد السكاني لكسر إرادة النظام المصري وشهد عام 1969 معارك إستنزاف طاحنة إمتدت من شرق السويس لعمق الصعيد و كان المصريون خلالها يسابقون الزمن من أجل تعزيز الصمود و الإنتقال لحالة المواجهة في ظل أوضاع عربية سيئة و صراعات رهيبة بين المقاومة الفلسطينية وتياراتها المتطرفة التي كانت تدعو لإسقاط الأنظمة العربية بدلا من التركيز على الصراع ضد الآلة العسكرية الإسرائيلية و أندلعت أحداث لبنان المحدوة ثم كان الإنفجار الكبير في الأردن في سبتمبر/ أيلول 1970 بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير حيث إندلعت أحداث دموية مؤسفة في وقت إقليمي صعب كانت تتزاحم فيه مشاريع التهدئة السياسية ( مشروع روجرز ) و مشاريع الإعداد لجولة عسكرية جديدة ضد إسرائيل لإسترداد ما فقد في هزيمة حزيران أو لتأكيد الوجود الفعلي على الأقل، وعقدت قمة القاهرة الطارئة و أنتهت أعمالها بالتوصل لوقف لإطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية و الحكومة الأردنية ولكن بعد جهود مضنية و مغامرات رهيبة لعب فيها العرب دورا محوريا و كان الدور الكويتي وقتذاك محوريا للغاية في حقن الدم الفلسطيني و العربي من خلال قيام الشيخ الراحل سعد العبدالله الصباح بتأمين حياة المرحوم ياسر عرفات و إخراجه سالما من عمان ثم التوصل لإتفاق سياسي/ عسكري ينهي الأزمة، وكان الجهد مضنيا و مدمرا و كان وداع جمال عبد الناصر لشيخ الكويت الراحل صباح السالم الصباح في مطار القاهرة عصر يوم 28 سبتمبر 1970 هو خاتمة المشهد السياسي لعبد الناصر وحيث توفي بعد ساعات قليلة في نفس اليوم، ليقترن ذلك التاريخ بحدثين كبيرين إرتبطا بجمال عبد الناصر شخصيا ألأول هو موت الزعامة الوحدوية القومية بعد الإنفصال السوري و الثاني هو الرحيل عن المشهد المصري و العربي و الدولي في قضية أعيدت ملفاتها من جديد للذاكرة التاريخية و للنقاش السياسي و التاريخي العام!!
نعم لقد كان يوم 28 سبتمبر / أيلول من الأيام المشهودة في تاريخ العرب الحديث.
التعليقات