quot;رداً على الاستاذ ميشيل كيلوquot;

مع تسارع وتيرة الهجرة المسيحية من منطقة الشرق الأوسط وانحسار وجودها، بدأت تتعالى، عبر المنابر الاعلامية، أصوات المطالبين بتحصين quot;المسيحيين المشرقيينquot;، محذرين من مخاطر ومضاعفات خلو المنطقة من هذا المكون المشرقي الأصيل.اذ،يكاد لا يمر يوماً من دون أن تنشر الصحافة العربية،الورقية والالكترونية، مقالاً أو تحقيقاً عن تردي أوضاع المسيحيين المشرقيين وعن التحديات التي تواجههم داخل أوطانهم. يقول الكاتب(غسان الامام)، في مقال له حول (الإشكالية المسيحية وهاجس الحزام الإسلامي) نشر في جريدة الشرق الأوسط اللندنية:quot;المسيحية العربية تواجه اليوم خطر الاقتلاع، حيثما و جدت في الوطن العربي. وهي تكافح من أجل البقاء في أحواض إقامتها المحاصرة بأحزمة الغالبية الدينية. هذا الكفاح له إحدى ثلاث نهايات: الهجرة. القبول بمواطنة من الدرجة الثانية. مواجهة الاستئصال الجماعي بالحزام الناسف...مجتمعات مسيحية مشرقية، مسكونة بهاجس الخوف من أن يتحول الحزام الإسلامي الذي يلفها ويزنِّرها، إلى حزام ناسف لوجود المسيحية التاريخية في الوطن العربي، قبل ولادة الإسلام بسبعة قرونquot;.

هكذا، بينما يجمع المراقبون والمحللون السياسيون على أن التحدي الأخطر، الذي تواجهه المسيحية المشرقية*، هو تنامي التيارات والحركات الإسلامية المتطرفة والتكفيرية الرافضة للآخر الغير مسلم و للمسلم الذي لا يشاركها الرأي والموقف،كتب المفكر الاصلاحي السوري المعروفquot;ميشيل كيلوquot;، مقالاً بعنوان quot;مسيحية قلقةquot;نشرته جريدة السفير اللبنانية بتاريخ 31-8-2010،يقول فيه quot; إن الإشكال الأكبر الذي تواجهه المسيحية العربية اليوم يأتي من أخطاء كنائسها: من فهمها للواقع ودورها فيه..quot; يبدو جلياً،أن الاستاذ ميشيل أقحم ايديولوجيته القومية العربية ومواقفه السياسية في مقاربته لأوضاع quot;المسيحية المشرقيةquot;.لهذا افتقرت رؤيته الى الواقعية والموضوعية،وفيها تحامل كبير على المؤسسات الكنسية والاجتماعية والسياسية لمسيحيي المشرق،فضلاً عن أن هذه المقاربة المؤدلجة انطوت على مغالطات سياسية كبيرة، من شأنها التشويش على الأسباب الحقيقية لقضية quot;مسيحيي المشرقquot;.القضية الملتصقة بشكل وثيق بالأيديولوجياتquot;اللا مساواةquot;،الدينية والسياسية والقومية، السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية. وهي ايديولوجيات تقلل من شأن ومكانة غير المسلمين وتنتقص من حقوقهم،و كرست مفهوم الأقلية والأغلبية وعمقت التمايزات داخل المجتمع الواحد.وبالمحصلة هذه الايديولوجيات المتكلسة عطلت عملية الاندماج المجتمعي بين مكونات المجتمع.ربما،في مراحل تاريخية معينة،ارتكبت بعض الكنائس المشرقية، هنا وهناك، أخطاء في طريقة تعاطيها مع قضايا محيطها، وهي تصارع من أجل البقاء والاستمرار في بيئة، دينية واجتماعية وثقافية وسياسية، ضاغطة عليها،تحاول ابتلاعها.لكن أياً تكن أخطاء هذه الكنيسة أو تلك لا يمكن تبرير وقبول الاضطهاد، الرسمي والمجتمعي، الواقع اليوم على مسيحيي المشرق.طبعاً،لا ضير من الاشارة الى أخطاء المؤسسات الكنسية وحثها على تطوير ذاتها والارتقاء الى مستوى تكون فيه قادرة على مواكبة متطلبات العيش المشترك والحياة المدنية والحداثة. لكن ثمة ضرراً،سياسياً ومعنوياً،كبيراً عندما نحمل الكنائس المشرقية مسؤولية ما يواجه أبنائها من تحديات ومشكلات.فمثل هذا التضليل على قضية، بالغة الحساسية والتعقيد، من دون شك، يصب في صالح الاستبداد السياسي والديني المهيمنان على شعوب المنطقة، ويخدم النهج الطائفي للأنظمة العربية والاسلامية، فضلاً عن أن مثل هذه الرؤية القاصرة تبرر الاعتداءات المنظمة والغير مبررة التي تستهدف المسيحيين المشرقيين في أكثر من مكان.

يقول الاستاذ ميشيل في مقاله المشار اليهquot; تعطي المسيحية العربية الانطباع بأنها قلقة وخائفة، وتتصرف بروحية متوجس يتعرض لتهديد يقوض وجوده. أما الأمثلة التي تؤكد ذلك، فنجدها في الموقف من حقوق الفلسطينيين المدنية في لبنان، التي تبدو الكنيسة كأنها ترى فيها شيئا يتجاوز حقوق هؤلاء المدنية، له آثار سلبية على مجمل علاقات وتوازنات الطوائف اللبنانية، مثلما نعثر عليها في موقف الكنيسة القبطية من قرار اعتمدته الدولة يبيح زواج المطلقquot;.لا ننفي بأن quot;الكنيسة اللبنانيةquot; دافعت عن الامتيازات السياسية للمسيحيين التي منحها لهم النظام الطائفي التوافقي في لبنان.لكن اجماع مختلف القوى السياسية المسيحية الممثلة في البرلمان على رفض quot;المقترحات الأربعةquot; بشأن الحقوق المدنية للاجئين الفلسطينيين على الأراضي اللبنانية-التي قدمها وليد جنبلاط لأهداف سياسية وطائفية بعد تموضعه السياسي الجديد - يعكس قلقاً حقيقاً لدى المجتمع المسيحي من الوجود الفلسطيني. هذا الوجود، الذي اقترن منذ البداية بحمل السلاح رغم أنف الدولة اللبنانية، شكل ومازال مصدر تهديد لأمن واستقرار لبنان.فكما هو معروف، كان للفلسطينيين دوراً أساسياً في اشعال الحروب الأهلية اللبنانية، وكادوا مع حلفائهم من المسلمين اللبنانيين أن يسقطوا النظام اللبناني وتهجير المسيحيين من كل لبنان في بدايات الحرب الأهلية، التي اندلعت عام 1975، لولا تدخل الجيش السوري وإفشاله للمخطط الأمريكي الاسرائيلي الفلسطيني الذي كان يهدف لترحيل المسيحيين عن لبنان وتوطين الفلسطينيين فيه.جدير بالذكر،أن الزعيم الفلسطيني الراحل (ياسر عرفات) صرح:quot; بأن طريق تحرير القدس يمر من بلدة جونيه المسيحيةquot;. وفي اجابته على سؤال فيما إذا كان يسعى لإقامة دولة فلسطينية على الأراضي اللبنانية،أجاب عرفات:quot;اريد أن أقيم دولة فلسطينية ولو على شبر من الماءquot;.ربما، تلك المشاريع والمخططات الجهنمية باتت جزءاً من الماضي،واليوم يرفضها المسلم اللبناني قبل المسيحي.لكن بقاء السلاح الفلسطيني خارج سيطرة الشرعية اللبنانية وتحول المخيمات الفلسطينية الى بؤر للتوتر الأمني ومحميات أمنية وسياسية تحتضن اليوم العديد من المنظمات الاسلامية المتطرفة والخلايا الارهابية النائمة، مثل(جند الشام،جند الله، الأحباش،القاعدة، فتح الاسلام..،وغيرها)،سبب كاف لتوجس المسيحيين وكل الوطنيين اللبنانيين من أية خطوة من شأنها أن تعزز الوجود الفلسطيني،وهو بهذا العدد والعتاد الحربي، على الأراضي اللبنانية،خاصة في ظل هشاشة الدولة وشبح quot;التوطينquot; الذي يخيم على لبنان القائم على التوازنات الطائفية.

في مصر،عبر تاريخها، تميزت quot;الكنيسة القبطيةquot; بمواقفها الوطنية ودعمها للانتفاضات والاحتجاجات التي قادها (عرابي) ضد الاحتلال الانكليزي.الموقف الذي كلف رئيسها،البابا (كيريللوس) الخامس،النفي ووضعه تحت الإقامة الجبرية في دير (وادي النطرون). وقد عزز البابا (شنودة)الحالي،المشهود له بوطنيته وحبه الكبير لمصر، هذا النهج وعمل على تطويره وترسيخه في حياة الأقباط المصريين. النهج الذي كلفه هو الآخر النفي والخلع إلى ذات الدير في الصحراء المصرية ووضعه تحت الإقامة الجبرية، لم تنته إلا بمقتل السادات 1981.يبدو،أن وطنية الأقباط وحبهم لمصر لا قيمة لهما في الحسابات والمصالح السياسية لحكام مصر،لطالما تتحدث نخبهم ومرجعياتهم،الدينية والمدنية، عن ضرورة رفع الغبن السياسي عن الأقباط و تحسين أوضاعهم القانونية والحقوقية، ومطالبتهم بمساواة الأقباط مع المسلمين،ووضع حد للعنف الطائفي الذي يستهدفهم. فبحسب مركز (ابن خلدون)،حصد العنف ضد الأقباط،،منذ حادثة الخانكة 8-9- 1972 حتى الآن، أكثر من 4000 قتيل وجريح قبطي.في ضوء هذا الواقع المأساوي،أرى أن قضية أقباط مصر هي أكبر من أن تختزل برفض الكنيسة قرار حكومي صدر قبل أشهر يبيح زواج القبطي المطلق، وهي أعمق من أن تختزل بخطف زوجة قسيس من قبل اسلاميين متشددين.أنها قضية سياسية بامتياز،لها بعد ديني وآخر انساني،تعود بجذورها الى نشأة الدولة المصرية الحديثة.ويعتقد الكثير من المراقبين والمهتمين بالشأن المصري،بأن أقباط مصر هم ضحايا مساومات سياسية وتفاهمات معينة بين quot;الأصولية الاسلامية المتشددةquot; وquot;النظامquot;، الراغب في الهاء هذه الأصولية،التي يخشاها، وإشغالها بالأقباط لإبعادها عن قضية الحكم.أليس أمراً يدعو للتساؤل أن لا يفوز قبطياً واحداً في الانتخابات البرلمانية حتى على قوائم (الحزب الوطني) الحاكم،رغم تعدادهم البالغ نحو عشرة ملايين قبطي.

في العراق،لا أدري ما هي خطايا quot;الكنيسة العراقيةquot;،وهل لها ثمة دور في الغزو الأمريكي للعراق، حتى يتعرض مسيحيو هذا البلد الجريح لعمليات الابادة والتطهير العرقي والديني من مناطقهم التاريخية،على أيدي مجموعات اسلامية وغير اسلامية، محلية وعابرة للقارات؟. في سوريا،رغم التسامح الديني والحياة الوطنية المشتركة بين مختلف الديانات والمذاهب والمكونات السورية،يخشى مسيحيو هذا البلد الآمن من أن يؤدي الصراع على السلطة يوماً الى صعود quot;الحركات الاسلاميةquot; وخسارتهم لهامش الحريات الدينية والاجتماعية المتاح لهم في ظل الحكم القائم. أليس أمراً يدعو للقلق والتساؤل أن تقوم مجموعات اسلامية متشددة بالاعتداء على مسيحيي المشرق وتنتهك حرمة كنائسهم،كلما حصلت إساءة للاسلام والمسلمين في مكان ما من العالم. وقد أعرب الكثير من مسيحيي المنطقة عن قلقهم من ردات فعل اسلامية ضدهم فيما لو نفذ القس الأمريكي (بيتر جونز) تهديداته بحرق نسخ من القرآن الكريم في الذكرى التاسعة لتفجيرات نيويورك.

في ضوء كل ما تقدم ذكره،وما لم يتم ذكره عن الظروف والتحديات الصعبة التي تحيط بـquot;المجتمعات المسيحية المشرقيةquot;أرى أن quot;المسيحية المشرقيةquot; دخلت بالفعل مرحلة (القلق الكياني)،الخوف على المصير والوجود،في هذه المنطقة،التي فيها ظهرت ومنها انتشرت الى بقية قارات العالم.هذا القلق يزداد ويتعمق يوماً بعد يوم، بغياب أية مبادرات عربية واسلامية جدية لحماية المسيحيين وتحصين وجودهم وتعزيز حضورهم في أوطانهم ومجتمعاتهم،وتحد من هجرتهم منها. لا خلاف على ما خلص اليه الاستاذ ميشيل كيلو في مقاله من أن:quot;لا مخرج للمسيحي والمسلم وللكنيسة والمسجد بغير مجتمع المواطنة المدني، المتعين بالإنسان كذات حرة وغير المتعين بالمؤمن: مسيحيا كان أم مسلما. لا حل لمشاكل المسيحية خارج مجتمعها العربي، أو ضده. ولا حل لمشاكل المجتمع العربي على حساب الكنيسة، خارج أفق المسيحية وضدها...quot;.لكن السؤال الذي يفرض نفسه وبقوة في سياق طرح قضية مسيحيي المشرق،هو: الى حين انجاز quot;الدولة المدنيةquot; و quot;مجتمع المواطنةquot;،وهما لا يبدوان ممكنان في المستقبل القريب ولا حتى البعيد،ما العمل للحفاظ على quot;المسيحية المشرقيةquot; التي تواجه خطر الاقتلاع؟.

* الأصح استخدام مصطلح (المسيحية المشرقية)، بدلاً من (المسيحية العربية)،لأن غالبية مسيحيي المنطقة هم ليسوا عرباً.

سوريا
مهتم بقضايا الأقليات
[email protected]