لا أتدخل في شؤون الدين، كعقيدة ورسالة، فلهذه رجالُها المتخصصون والمتضلعون فيها. أما أنا فكاتب سياسي أنظر إلى المسألة من زاوية صلاح رجل الدين للسياسة، ومدى صدقه في ارتداء عباءة الديمقراطية التي أصبحت تقليعة سائرة لا يستحي كثيرون من المعممين اليوم من إطلاقها على أنفسهم وأحزابهم ومنظماتهم، وهم لا يعنونها ولا يحبونها ولا يطيقونها، بل إن بعضَهم قادةُ مليشيات غوغائية مارست وتمارس القتل على الهوية، ليس في العراق وحسب، بل في بلدان إسلامية عديدة. يتسترون بالديمقراطية للوصول إلى السلطة، ثم حين يملكون زمامها يكشرون عن أنيابهم، ويشحذون أظافرهم، ويفاجئون شعوبهم بديكتاتورية مدمرة كانت مختبئة في عظامهم حتى النخاع.

هذا البعض لم يتفقه في أمور الديمقراطية، ولم يعرف الكثير عنها وعن شروطها، وظن أن الديمقراطية، بقضها وقضيضها، هي عملية الانتخاب وحدها، حتى لو كانت تُمسك بمفاتيحها ديكتاتورية ُالطائفة أو العشيرة. أما القبول بالآخر، والوسطية، واحترام الرأي المخالف، وعدم استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية، والتداول السلمي للسلطة، فأمور هامشية لا َتنقـُصُ الديمقراطية إن هو خالفـَها وعمل بعكسها، أو لو استخدم وسائل القهر السلطوي لفرْض عقيدته الواحدة على الناس، أو لو احتال على رفاقه الآخرين وسرق منهم السلطة في وضح النهار.

ونستثني من هؤلاء نفرا قليلا من رجال الدين الخيرين تمكن من تطهير نفسه من طباعها العشائرية والقومية المتعصبة، ومن الفهم المتزمت للدين، بعد أن مارس، بجدية ومنهجية، رياضة الدمقرطة النفسية والخُلقية، حتى شفي من كثير مما علق بروحه من شوائب وفـُـتات.

ومثلما يصعب اجتماع الصيف والشتاء على سطح واحد، فلا يمكن أن يكون ديمقراطيا رجلُ دين ٍممسكٌ بتقاليده المتوارثة، بيديه وأسنانه، وخاضع بشدة لمرجعيته الدينية أو القبلية، وطائع لولي أمره طاعة ًمطلقة.

وعليه فمن العيب على المسلم العربي الأصيل أن يتستر بالبدع المستوردة، ولا يقف بجرأة وشجاعة ووضوح في وجه كل ما جاء به الفكر الغربي (الوثني أو النصراني أو اليهودي) من مفاهيم وأساليب وثقافات. فكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. والديمقراطية واحدة من تلك البدع المرفوضة جملة وتفصيلا.

فنحن أمة نشأت واستقامت حياتها على العشائرية وقيمها وقوانينها. وتأسيسا على ذلك أصبح وليُ الأمر، وهو رئيسُ القبيلة، وحدَه صاحبَ الحق المطلق في التصرف بأموالها ورجالها ونسائها ومواليها. وجميعُ أسلاب الغزوات، حين لم تكن للقبيلة وسيلة عيش غيرُها، تـُرمى تحت أقدام الشيخ، يوزعها على هواه، ويتصرف بها كما يشاء. ويحل له اقتناء عشرات النساء، ومعاشرة عشرات مما ملكت يمينه من الجواري، دون زواج، ولا يرى، في ذلك، أحدٌ في قبيلته أو القبائل المجاورة عيبا ولا منقصة.

والأمثلة كثيرة على تضخم النزعة الفردية لدى الحاكم العربي، على امتداد تاريخنا الطويل. كما أن الأمثلة كثيرة أيضا على أنه لم يكن يطيق اختلاف الرأي، ولا يقبل بأن ينازعه أحد في سلطته أو أن يجادله في أمر أقره أو أمَر باتباعه.

ومنذ أن ابتدع معاوية بن أبي سفيان نظام وراثة الخلافة وفرض على الناس مبايعته بقوة السيف أو بالرشوة، أو بهما كليهما أغلق الباب نهائيا على مبدأ الشورى وأسقط فكرة المساواة بين المسلمين.

فالدولة الأموية، مثلا، منذ تأسيسها وحتى سقوطها، كانت دولة ديكتاتورية دموية شديدة في تعصبها وعنصريتها القومية العربية. مع استثناء قصير في خلافة عمر بن عبد العزيز الذي حكم بالعدل، وخفف ظلم عماله عن كاهل سكان الأقاليم المفتوحة، وأنصف في توزيع خزائن بيت المال. لكن، وبمجرد وفاته، عاد أبناء خلفاء بني أمية إلى سيرة آبائهم وأجدادهم الأولين. وليس خافيا أنهم جميعا كانوا يتصرفون بأموال المسلمين ودمائهم ورقابهم ونسائهم وأولادهم وأرزاقهم تصرف المالك المطلق الوحيد، فيقتلون بالشبهة، ويأمرون بتقطيع من يختلف معهم في رأي أو عقيدة إرَبا في دكاكين القصابين، أوبصَلبهم على الشجر حتى تأكلهم الطيور. وهذا ما كانوا يفعلونه بأخوتهم في العروبة والدين والعشيرة.
أما ما كانوا يفعلونه بالشعوب الأخرى التي كانوا يغزونها في البلاد غير العربية، فليس فيه شيء من عدالة الإسلام ورحمته. بل كان كلـُه استعبادا وابتزازا وقهرا وظلما ليس له حدود.

وحتى حين كان يُسلم سكان البلاد المفتوحة، إيمانا بعدالة الإسلام، أو خوفا من جيوش الخليفة، أو هربا من أوزار الجزية وظلم العاملين عليها، لم يكونوا في مأمن من قهر العربي المسلم لأخيه المسلم من هؤلاء الموالي والمستعبـَدين. وهذا ما يفسر الحقد القومي المتوارَث على العرب، من أيام الإمام علي وإلى اليوم، والذي ينعته كتاب تاريخنا القومي العربي بـ (الشعوبية).

ثم قامت الدولة العباسية على أكتاف الفرس، وبالتحديد على يد أبي مسلم الخراساني. وحين خاف أبو العباس السفاح من سعة نفوذه وقوة جيوشه دعاه من خراسان إلى قصره في العراق لتكريمه، ثم أطلق عليه حراسَه وعبيده بسيوفهم، واستصفى أمواله، وباع رجاله في أسواق الرقيق، وأنعم بنسائه على جنوده الميامين.

وهارون الرشيد مثال آخر. فقد أرضعته زوجة يحيى البرمكي وربته في حضنها مع ولديها الفضل وجعفر، وتعهده يحيى بالرعاية، وحماه من دسائس أخيه الهادي. وحين علم يحيى، ذات ليلة، بأن الخليفة الهادي قرر قتل أخيه وولي عهده هارون ومبايعة إبنه الصغير وليا للعهد سارع يحيى إلى الفتك بالخليفة، فقـتَـله بأيدي نساء فارسيات كن يعملن في حاشية الهادي، ثم أجلس هارون على كرسي الخلافة. ثم حين اشتد عود الخليفة هارون الرشيد، واستفاقت فيه الغيرة من نفوذ البرامكة وقوتهم وحب الناس لمكارمهم تحرك تحت الظلام ذات ليلة غادرة، فقتل أخاه بالرضاعة جعفرا، وأخاه الفضل، وأطلق على جميع البرامكة سيوف رجاله، حتى لم ينجُ منهم صغير ولا كبير، واستصفى أموالهم، وفرض على راعيه ومربيه يحيى البرمكي الإقامة الجبرية إلى أن مات.

وقصص القتل العشوائي المزاجي التي سجلتها كتب التاريخ لهارون كثيرة. أقلُها أنه كان يأمر بإرسال من يبوء بغضبه إلى دكاكين القصابين لتقطع يداه ورجلاه من خلاف.
مقابل هذا الجبروت والصولجان حفظ لنا التاريخ ذلك الكمَ الهائل من الحكايات الأسطورية عن بذخه وكرمه وبعثرته لأموال المسلمين، بما لم يسبقه إليه من قبلُ أي ٌمن خلفاء بني العباس أو الأمويين. ويُذكر إنه خاطب سحابة مرت من فوقه قائلا، إذهبي أنى شئت، فسوف يأتيني خراجك. ولم يقل إن خراجها سيرد إلى بيت مال المسلمين. ومع ذلك فكثير من كتابنا المرموقين ما زالوا يترحمون عليه، ويسجلون ذكراه بالتبجيل والاحترام، لأنه كان (يغزو عاما، ويحج آخر).

وتجدر الإشارة هنا إلى أن البقعة الديمقراطية المضيئة الوحيدة في تاريخنا الإسلامي الطويل كانت دولة َالقرامطة التي قامت على مبدأ الانتخاب الحر المباشر، وعلى المساواة الكاملة بين الرئيس والمرؤوس، الرجل والمرأة، الصغير والكبير، في جميع الحقوق والواجبات. وكان رئيس الدولة يلبس نفس لباس العامل العادي، ويأكل أكله، ويعمل مثله. فهي أكثر ديمقراطيات التاريخ نقاء وعبقرية. لكنها حوصرت من أمراء بني العباس وخدمهم وجيوشهم ورجال الدين المنافقين الذين لفقوا عليها كثيرا من الأباطيل، واتهموها بما ليس فيها من إلحاد وكفر وإباحية، واعتبروها دولة مارقة على الدين، وما هي كذلك، حتى مزقوها وداسوا على تراثها العظيم.

ونتيجة لتك السياسات والتصرفات فإن الثابت تاريخيا أن أقوى الحركات المناوئة للدولة العربية الإسلامية، الأموية والعباسية معا، وأكثرَها جذبا للموالي والشعوب المستعبدَة، كانت تولد وتترعرع ويشتد عودها في خراسان وبلاد فارس. ولا جدال في أن الذي أسقط الدولة الأموية هو الحقد الفارسي على العرب، والذي أنهك الدولة العباسية هو حقدُ الفرس، أيضا، والموالي والأقليات غير العربية التي دخلت الإسلام، أو اُدخلت فيه بقوة السيف، لتسقط دولة الإسلام أخيرا تحت حوافر الخيول الأجنبية.

وقد سجل التاريخ أن العراق، دفع، عبر تاريخه القديم والحديث معا، ثمنا باهضا لجيرته مع إيران المسلمة التي لم تمُتْ في بعض قادتها النزعة ُالقومية الفارسية التي اختزنت في نفوسهم كثيرا من ذكريات الظلم العربي التي حفظ التاريخ قصصها وأخبارها المرعبة.

وما الوجود الفاعل والكبير لإيران الآن في العراق، تحت عمائم حلفائها قادة الأحزاب الطائفية، إلا تعبيرٌ عن هذا الحقد الدفين، ورغبة ٌفي الانتقام والثأر لما فعله الفاتحون العرب برجالها ونسائها وأموالها، عبر العصور المتعاقبة.

وكتائب أسامة بن لادن وأيمن الظواهري ومن لف لفـَهما دليل صارخ آخر، أكثرُ إيلاما، على أننا أمة ديكتاتورية بامتياز. فهم، ومن أكثر من ثلاثة عقود، يَقتلون كل يوم، ويُحرقون كل ساعة، من المسلمين أكثرَ ما يقتلون من غيرهم، بدعوى الجهاد من أجل إعلاء راية الإسلام وإعادة مجد الخلافة.

وانظروا ما يدور في بغداد هذه الأيام، بوجود نوري المالكي (المعمم بالقلب والعقل والروح). فهو بإصراره على أن يدوس بحذائه الطائفي المتعصب على الديمقراطية، وعلى الدستور، وعلى المنطق والأصول، وبتهافته المعيب على كرسي الرئاسة، وبجهاده المستميت لجعل الدولة العراقية دولتَه، وهي كبيرة عليه، دليل آخر على أن رجل الدين المخلص لتراثه الديكتاتوري لا يصلح لقيادة وطن ديمقراطي. فقد أثبت بالدليل القاطع أن ديمقراطيته التي دوخ الناس بالتبشير بها، ودولة َالقانون التي جاء بردائها، ليستا سوى تقية بائسة، وانتهازية بغيضة لا تحتمل.

لا أدافع هنا عن أياد علاوي وعلمانيته وديمقراطيته، وقد ذقنا بعض ثمارهما في فترة حكمه القصيرة. فأنا لا أرى فرقا بينه وبين المالكي أوغيرهما من المتقاتلين على الكراسي. فكلهم من طينة واحدة. ديمقراطيون جدا قبل أن يحكموا. لكن أيا منهم، فور جلوسه على كرسي الرئاسة، يُكشر عن أنيابه ويباشر بالذبح الحلال.

إن ما أثبتته الأيام والسنون أن دولة العراق، وبلادَ المسلمين كافة، لن تنصلح أبدا، ولن تعود أرضا آمنة عزيزة وكريمة إلا إذا تم فصل الدين عن الدولة، تماما ونهائيا، ودخلت الأمة كلها في العصر الديمقراطي العلماني الحقيقي الذي يجعل البشر سواسية أمام القانون ويرفع عنهم سيوف القهر العنصري أو الطائفي، ويغسل عقولهم وقلوبهم من الأوهام والخرافات والأساطير، ويجعل رجال الحكومة موظفين لدى المواطنين، ولا يجعل المواطنين عبيد الحكومة. حينها سوف يجد القادة المعممون أنفسَهم مرغمين على اختيارَ واحد من اثنين، إما أن ينزعوا عمائمهم ويدخلوا عالم السياسة في القرن الحادي والعشرين، وينصاعوا، تماما ودون مواربة، لأفكاره وثقافاته وقوانينه، أو أن يغادروا شوارع السياسة وأزقتها وقبابها، ويعودوا إلى جوامعهم وحُسينياتهم، ويتفرغوا للصلاة والدعاء، ويتركوا السياسة لأهلها وفرسانها.

فلا ديمقراطية ما دام في البرلمان وفي وزارات الخارجية والمالية والتعليم والثقافة وفي الشرطة والجيش واحد يضع العمامة على رأسه، أو يخفيها في عظامه، والله على كل شيء قدير.