واحدة من اهم المشاكل التي يواجهها النظام الجديد في العراق تتجلى في اعتلاء اناس طارئون لمنصات الحكم ودوائر المال في مؤسسات الدولة العراقية الحديثة منذ نيسان 2003م، وهم عبارة عن مجاميع من مرتزقة النظام السابق ومنفذي برامجه الذين عملوا على طول الخط كمقاولين ومجهزين وشركاء لقيادات حزبية او عسكرية او امنية في مشاريع تنفذها تلك الجهات، مضافا اليهم تلك الافواج من المجرمين العتاة الذين اطلق سراحهم قبل عدة اشهر من سقوط النظام نظير قيامهم بعمليات لصالحه في حالة تعرضه الى هجوم او مقاومة من الشعب، حيث نجحت هذه المجاميع من الانتهازيين والمرتزقة والمقاولين والتجار والمهربين والمجرمين من اختراق صفوف القوات الامريكية بكثير من الصفات والاشكال مستغلة عدم الدراية وقلة المعرفة بواقع الحال وتاريخ البلاد واوضاعها الاجتماعية والسياسية من قبل تلك القوات واداراتها، وفي مقدمة منافذ الاختراق كانت بعض اعمال الترجمة الفورية التي احتاجتها تلك الوحدات اثناء دخولها المدن والارياف والتي اي تلك المجاميع من المترجمين تحولت الى حلقات وصل ونفوذ وتسلق لكثير من اولئك الطارئين الذين تحولوا خلال هذه السبع العجاف الى طبقة مالية متنفذة اغرقت البلاد والعباد بفسادها وافسادها.

لقد كانت الخطوات الاولى لتكوين تلك الطبقة مجموعة مقاولات اولية وثانوية لتجهيز تلك الوحدات بما تحتاجه من خدمات خاصة، اضافة الى مقاولات صغيرة بتخصيصات كبيرة انذاك اي بعد الاحتلال مباشرة لأعادة اعمار بعض المنشآت التي تعرضت للسلب والنهب والحرق على أيدي تلك المجاميع ورفاقهم من الحزبيين والكثير من رجال الأجهزة الخاصة والغوغاء الذين استباحوا البلاد في أبشع عملية سرقة منظمة قاموا بها في ما اطلق عليها بالحواسم التي اباحها رئيس النظام السابق واحل لهم ما سلبوه ونهبوه من المال العام في طول البلاد وعرضها.

وقد شهد الكثير منا عمليات السلب والنهب التي تعرضت لها معسكرات الجيش ومخازنه ودوائر الدولة ومؤسساتها دون استثناء بما في ذلك المتاحف والمعارض والمسارح والجامعات ومباني الوزارات والقيادات وقصور الرئاسة وحتى المدارس الابتدائية وما فيها من رحلات وسبورات، وقد اكدت الاحداث ان كثير من اولئك الذين قاموا بعمليات النهب والسلب والسرقة هم بعض من موظفي ومراتب وضباط تلك الدوائر والمخازن والمعسكرات وحتى الجامعات والمتاحف والوزارت حيث تحولوا خلال عدة سنوات الى ديناصورات مالية استطاعت النفوذ الى جسم الدولة الجديدة من خلال ما امتازت به من اموال وعلاقات مع قوات الاحتلال، واصبحوا بين ليلة وضحاها من كبار رجال الدولة ومستشاريها وربما البعض منهم اسس كيانات واحزاب وكتل سياسية اخترق بها جسد النظام الجديد في البلاد وعمل على اعاقة اي تقدم يذكر في حل اشكاليات المواطن العراقي ومعاناته التي امتدت لعشرات السنين.

وازاء هذا المشهد وما يرافقه الان من تنافسات وصراعات على السلطة بدلا من تداولها بشكل سلمي وديمقراطي تعمل تلك القوى الطارئة على اغراق المواطن باليأس والاحباط وتأخير قيام مؤسساته الوطنية كما تفعل فعلتها في اذكاء نيران الفتنة الطائفية تارة والعرقية تارة اخرى وابقاء البلاد في دوامة العنف والاحتراب وايقاف عملية الاعمار والبناء لتحافظ على مكتسباتها ومصالحها ومبررات وجودها وهنا دعونا نتأمل مع الكاتب المبدع رشيد الخيون وهو يتصور كما تصورنا جميعا:

((... أنهم البنائون لعصر عراقي جديد، مثلما مازالوا يرددونها خالية من المعنى: quot;العراق الجديدquot;! لا ندري، ماذا عنت لهم الدِّيباجة التي أُستهلوا بها الدُّستور الدائم (2005): quot;نحنُ أبناء وادي الرَّافدين، موطن الأنبياء، ومثوى الأئمة الأطهار، ورواد الحضارة، وصناع الكتابة، ومهد التَّرقيم، على أرضنا سنَّ أولُ قانونٍ وضعه الإنسان، وفي وطننا خُطَّ أعرقُ عهدٍ عادلٍ لسياسة الأوطان، وفوقَ ترابنا صلى الصَّحابةُ والأولياء، ونظَّرَ الفلاسفةُ والعلماء، وأبدعَ الأدباءُ والشُّعراءْquot;. أقول: ألا بئس الأحفاد! فهؤلاء الذَّين نسجوا ذلك الشِّعر جعلوا رواتبهم بالملايين، فراتب عضو البرلماني الشَّهري يتراوح بين ثلاثين إلى أربعين ألف دولار! وهو القرار من بين القرارات الفريدة التي تألفت عليها قلوب البرلمانيين المختلفة.

هؤلاء أنفسهم الذين كتبوا تلك الدِّيباجة، واقسموا اليمين على حماية الدَّم والمال، أحدهم يشيد الآن داراً ثمنها بالملايين من الدُّولارات لا الدَّنانير، وهم أنفسهم أسرعوا إلى تقاسم الوظائف في السَّفارات العراقية للأبناء وأولاد العمومة، وهم أنفسهم في الأزمات يتركون البلاد، إلى موسم حج أو اصطياف، وكأن قائلهم يقول ما قاله الحجازي عبيد الله بن الحر لمصعب بن الزُّبير (قُتل 71 هـ)، وهو يُقاتل بالعراق: quot;لا كوفةٌ أمي ولا بصرةٌ أبي.. ولا أنا يثنيني عن الرحْلةِ الكَسّلْquot;(نفسه)!

ليس أكثر بالعراق اليوم من سيل الدَّم والجوع! لا صوت يعلو بالعراق اليوم على صوت النِّسناس وهو يسفك الدَّم وينهب المال، غير أنها قد لا تخلو مِنْ بقية تُرجى، من مثقفين وعلماء وأبناء أُصول وأشراف ضمائر، لكنهم منزوون، فالزَّمن زمن النِّسناس لا quot;بقية النِّاسquot;. وقصة العبارة، أنه بعد قيام الفتن انزوى التَّابعي سعيد بن المُسَيَّب(ت 94 هـ) في زاوية من زوايا المسجد النَّبوي، ولما مرَّ به الوليد بن عبدالملك (ت 96 هـ) ولم يتحرك له، أشار إليه قائلاً: quot;هذا بقية النَّاسquot;(تاريخ اليعقوبي). ))*

* من مقال ( العراق.. النسناس وبقية الناس ) للكاتب رشيد خيون: عن جريدة الاتحاد الاماراتية.