قبل فترة شاركنا في مؤتمر خاص لمنتدى الحكمة للدراسات الفلسفية، و الذي عُقد في مدينة السليمانية، كبرى المدن الكردية في كردستان العراق والعاصمة الثقافية الحالية للأقليم الذي يحضى منذ الحرب الخليج الثانية (1991) و بعد إنتفاضة الكُرد على النظام العراقي البائد، بحكم ذاتي. * كاتب و صحفي ndash; كُردستان العراق
و قد تمحورت حوارات هذا المؤتمر في عدة قضايا هامة، أبرزها العقلانية Rationality، الحزب، الحكومة. و قد قدمت في المؤتمر بحوثاً أكاديمية شيقة أثارت مناقشات و سجالات حامية و مفيدة بين الحضور، فضلاً عن مساهمتها، عند المهتمين بالقضايا المطروحة، في حث التفكير المتأني في واقع كُردستان العراق و محاولة التأسيس و التنظير لفهم عقلاني للأزمات السياسية و الظواهر المسيئة للتجربة الكُردية في الحكم و إدارة الأقليم، و كذلك توجيه النقد الفلسفي و العلمي في المؤتمر لمظاهر الفساد السياسي و إشكالية تداخل السلطات و هيمنة الحزب على الحكومة و مواضيع أخرى من هذا القبيل.
و يمكن للمتابع و الحاضر في هذا المؤتمر أن يشيد بأهمية مثل هذه المؤتمرات و يتفهم ضرورة العمل على عقلنة الوقوف على مثل هذه القضايا و دور النقد، لاسيما إذا ما ساهم في توسيع آفاق التفكير السياسي و تعرية الأمور غير المفكر فيها و رصد الأخطاء و تشخيص المشاكل و طرح الحلول و المعالجات، أي توفير شروط النشاط السياسي و الفكري و المدني الموجه بإتجاه بناء العقلانية من جهة، و من جهة أخرى صوب إرساء قيم الديمقراطية، التي لا تُنَظَّم الحياة من دونها بل أنها باتت للمجتمعات البشرية كالأوكسجين على حد قول أحد المفكرين.
و قد لاحظنا في هذا المؤتمر حماسة ملفتة لدى المشاركين للمساهمة و التعقيب على مواضيع البحوث و وأوراق الباحثين لحد التعبير،أحياناً، عن مخاوف غير واقعية من التجربة الكردية، و ذلك ربما خشيةً منهم من وقوع هذه التجربة في فخ تكرار تجارب حزب البعث في العراق و ثقافته التعسفية و الإكراهية في إدارة الدولة و معاملة الشعب و تعاطيه مع القضايا بمنطق القوة و ليس بقوة المنطق و العقل و بمباديء الديمقراطية. و قد لاحظنا أيضاً أن بعض الباحثين و المعقبين وصل الأمر معهم لحد القول بأن السلطة الحاكمة في الأقليم هي سلطة شمولية و توتاليتارية! بل ذهب البعض منهم الى اسوأ من هذه الإسقاطات و وصفوا السلطة الكُردية بالفاشية!، أما رأيي أنا فهو أن هذه التوصيفات مجحفة جملةً و تفصيلاً، ذلك لأنها غير صحيحة بل ربما لا تمثل سوى تعبيرات سايكولوجية قد تكون مفهومة إذا ما كانت تنفيساً لفرد غاضب، أو شعاراً لمتظاهر في الشارع، أو قولاً عابراً لمواطن ساخط من ظرف ما، أو إذا ما كانت مجرد رأي لسياسيٍ مُعارض و مُتغذي على شتم القائمين في الحكم، أو إنشاءاً لصحفي هاوٍ في صحفنا و مجلاتنا الصفراء التي لا تلتزم أغلبها، عادةً، بالحد الأدنى من التفكير المتشبث بالمفهوم بل حتى بأخلاقيات المهنة، أما أن يطرح مثل هذا (الرأي) في مؤتمرات فلسفية تُحشد فيها جملة من الباحثيين الأجانب، فهذا أمر غير طبيعي بل ربما مهين لهيبة المؤتمرات هذه، ذلك لأن وصف التجربة الكردية في الحكم بهذه التوصيفات العشوائية، لايفيدنا في شيء سوى تعقيد الأمور و شل التفكير في أمرنا بل تجميد العمل و السعي لتجاوز أزمات تجربة الكُرد التي نطمح في تعميم و تصدير وجوهها الحسنة الى التجربة العراقية الوليدة.
بالطبع نحن نعي اليوم مكامن مثل هذه النظرة التشاؤمية و اللغة التهجمية على التجربة الكردية في الحكم، إن كان من الداخل أو الخارج، و لا مجال هنا لذكر كل الأسباب، و لكن يمكننا هنا، على الصعيد الداخلي، ذكر العامل الثقافي في إشاعة مثل هذه الثقافة و هذا الجلد للذات و الذي هو في آخر الأمر ليس سوى إنتشار ثقافة فيروسية في واقعنا الإعلامي و الثقافي هي، بجملة، ثقافة التعلق الساذج بالكلمات الكبيرة و المعقدة دون المعرفة بإبعادها الأصطلاحية و المفهومية و أسسها النظرية و الفكرية، هذا في الوقت الذي نعي أننا عندما نقرر مناقشة القضايا و الأمور أو الأزمات التي نعاني منها، في مؤتمرات فلسفية و علمية، يستوجب علينا، مبدئياً، أن نكون بمستوى مقام التفكير العقلاني و الفلسفي، أي نرتقي الى لغة المنهجية و النظريات المعرفية و المفاهيم الفلسفية و المصطلحات العلمية، و ليس المقاربة بعبارات سطحية و إسقاطات لغوية أو عبارات غير دقيقة فكرياً و علمياً.
بعبارة أخرى، أن عقد مثل هذه المؤتمرات يساهم دون شك في إعادة الإعتبار للكلمة و الثقافة و التفكير العقلاني حتى و إن يأتي تعلقنا هذا على محاسنها الفكرية و المعرفية في وقت متأخر، الأهم بالنسبة لواقع كُردستان العراق هو التحرر من المقاربات اليومية الساذجة و لاسيما من هيمنة الخطاب الإعلامي في التقدير و التقويم لما يدور في تجربة كُردستان العراق، و العودة الى صالونات المناقشات الفكرية الجادة و إجراء البحوث العلمية و الندوات الفكرية التي نحن بأمس الحاجة اليها لاسيما في الوقت الراهن الذي يرسخ فيه، للأسف، الكثير من صحفنا و مجلاتنا و بعض قنواتنا الإعلامية الأخرى ثقافة سطحية و تهجمية و عشوائية إزاء كل حدث و أزمة أو مشكلة و ظاهرة بذريعة حرية التعبير و النشر أو النقد و المعارضة من دون أن تساهم، هذه الثقافة الإرجالية، في فهمنا للأمور و الأزمات أو قراءتنا لمنابعها و عواملها أو أبعادها و وجوهها المختلفة، هذا فضلاً عن تراجع أغلب صحفنا و مجلاتنا في المهنية أصلاً و تورطها في مرام و اهداف سياسية، و بالتالي وقوعها في لغة القذف و التشهير و التهم الباطلة و المعلومات غير الموثقة علاوةً على نشرها روح الفتنة بين القوى السياسية و المجتمعية و إغتيال المبادرة و الأمل في المجتمع بل زرع الحقد و البغضاء في نفوسنا و فكرنا تجاه بعضنا البعض.
- آخر تحديث :
التعليقات