منذ بدء الخليقة عرف الإنسان الخير والشر وعرف أيضاً التسامح والتطرف. التسامح صفة إنسانية رائعة ولازمة للتعايش السلمي بين الحضارات والثقافات والأديان، والتسامح فضيلة يتعلمها الإنسان عبر الأديان والفلسفات والأداب وليس غريزة يولد بها الإنسان. يقول تاريخ الإنسانية الطويل والمؤلم أن التطرف انتصر كثيراً وأن التسامح انتصر قليلاً لأن الإنسان عبر العصور اتبع قوى الشر ومنحها الفرصة تلو الأخرى للتمكن من عقله وقلبه ومشاعره. ولعل الحروب والنزاعات والجرائم تعد كلها دلائل على التطرف الإنساني وعدم تسامحه مع الأخر. ملايين وملايين من الضحايا الأبرياء قتلوا أو أو خسروا أو تألموا بسبب التطرف وغياب التسامح، وما يجري الأن على الساحة الدولية من انتشار للكراهية والتطرف والإرهاب لهو فصل جديد من فصول كتاب قديم يحمل عنوان لا تسامح.

على المستوى الشخصي، تعلمت التسامح ليس فقط كفضيلة ولكن كفريضة إنسانية مهمة. شدد والديّ في تربيتهما لي ولإخوتي على أن المحبة يجب أن تشغل كل مساحة في قلوبنا وعملا بدأب على عدم السماح بنمو أية بذور للحقد أو للكراهية في قلوبنا. لم يكن التسامح غريباً عن بيتنا وعن عائلتنا رغم كل الظروف التي حاطت بنشأتنا في حقبة شهدت صعوداً كبيراً للتيار الإسلامي المتطرف الكاره للأخر تزايدت معه بشكل غير مسبوق أعمال العنف ضد المسيحيين.

أذكر هنا حدثاً بليغاً شهدته عندما كنت في نحو العاشرة من عمري يدل على مدى عمق التسامح الشديد الذي تمتعت به عائلتي. كان أحد أخوالي يوماً يقوم بإعادة ترتيب المكتبة الصغيرة الموجودة ببيت جدي لوالدتي، وكان القرآن من بين الكتب الموجودة. لم يلحظ خالي أنه وضع القرآن ضمن مجموعة من الكتب على أرضية الغرفة، فما كان من جدي الذي كان تجاوز الثمانين من عمره عندئذ إلا أن قام من مقعده وأخذ القرآن من بين الكتب ووضعه باحترام أذهلني في سني الصغير فوق الطاولة. أذكر ان جدي عندها لام خالي لعدم ملاحظته القرآن بين الكتب الأخرى التي وضعها على الأرضية وطالبه بعدم وضع القرآن على الأرضية احتراماً لمشاعر من يؤمنون بالقرآن.

لم تفارق قصة جدي مع القرآن ذاكرتي طيلة السنوات والعقود التي مضت. تأملت في تسامح جدي مؤخراً عندما قرأت الأخبار التي تداولتها وسائل الإعلام عن دعوة قس أمريكي لحرق القرآن في الذكرى التاسعة لاعتداءات 11 سبتمبر الإرهابية، التي طالت أهدافاً أمريكية، وراح ضحيتها ما يزيد عن ثلاثة ألاف نفس بريئة في أسوأ الهجمات التي تعرضت لها الولايات المتحدة في تاريخها. حاولت استيعاب الأمر من منظور محايد من منطلق أنني لا أؤمن بالقرآن وبحكم معارضتي الشديدة لكل أعمال العنف وهي المعارضة التي تنبع من إيماني العميق بالسلام والمحبة والتسامح كوسائل ضرورية لا غنى عنها للتعايش بين الحضارات والثقافات والأديان المختلفة.

استمعت على موقع الـ quot;يو تيوبquot; للقس تيري جونز صاحب دعوى حرق القرآن وأدركت المخاوف التي تنتابه من انتشار الإسلام المتطرف في الولايات المتحدة. يستشهد جونز ببعض خطب رجال الدين المسلمين المتطرفين الذين يحرقون العلم الأمريكي وينادون بالموت لأمريكا وهم يبشرون أتباعهم بأن الأسلام سيغزو العالم في المستقبل القريب. عرفت أيضاً من خلال متابعتي على مدار الأسابيع القليلة الماضية لدعوة القس أن الانتقام هو الدافع الرئيسي لدعوته.

كانت خطط إقامة مسجد بالقرب من موقع هجمات 11 سبتمبر الإرهابية هي الشرارة التي أشعلت غضب القس جونز كغيره من الملايين من الأمريكيين الرافضين للمسجد. كما كان مقتل 4 من الأطباء الأمريكيين المسيحيين الذين يقدمون مساعدات طبية في أفغانستان على أيدي إرهابيين مسلمين عاملاً مساعداً في تأجيج مشاعر غضب جونز ورفاقه.

لا شك في أن انتشار التطرف والإرهاب يعد أمراً مقلقاً بشدة، ولا شك في أن مواجهة التطرف والإرهاب أمر مطلوب ورغوب، ولكن يبدو أنه فات على القس جونز أنه يواجه التطرف بتطرف مماثل، ولو وعي القس لأدرك أن حرق القرآن لا يعكس على الإطلاق روحاً مسيحية حقة. صحيح أن المسيحية لا تعترف بالإسلام ولا بالقرآن، ولكن المسيحية طالبت أبناءها بإظهار روح المحبة نحو الجميع بدون تمييز، كما طالبتهم بأن يكونوا شهوداً للسيد المسيح الذي لم يُظْهِر على الإطلاق أية مشاعر متطرفة نحو الأخرين، ولم يُغْضِب من لم يتلقوا رسالته كمخلص، ولم يعادي حتى من عادوه واضطهدوه وصلبوه. ولذا فقد كان من الأجدى لو أن القس جونز سعي لمواجه التطرف والإرهاب عبر نشر رسالة السلام والمحبة التي جاء بها السيد المسيح من دون استخدام أساليب متطرفة موازية.

لقد انتهت أزمة حرق القرآن بعد خطوة القس تيري جونز الصائبة بالتراجع عن خططه وهو التراجع الذي كان متوقعاً بعد الضغوط الكبيرة التي مارستها عليه الإدارة الأمريكية، ولكن التطرف والإرهاب لم ولن ينتهيان بعد إلغاء خطط حرق القرآن. التحدي الذي يواجه العقلاء من كافة الأديان هو كيفية نشر مبادئ التسامح وإحلالها محل الفكر المتطرف كوسيلة لكبح جماح المتطرفين والإرهابيين الذين يروعون الأمناء وينشرون رسالة الدمار والخراب والحقد والكراهية. لقد بات على العالم أن يسعى بجدية لمواجهة انتشار الفكر المتطرف. وأرى أنه على عقلاء المسلمين تبني التسامح كفريضة إنسانية واجبة وزرعها في نفوس صغارهم حتى ينعم الجميع بمستقبل أفضل. كما أرى أن من واجب عقلاء المسلمين اتخاذ خطوات لتهدئة مخاوف الغربيين من غزو الإسلام لبلدانهم. ولعل نقل المسجد المزمع إقامته بالقرب من موقع هجمات 11 سبتمبر يكون خطوة أخرى صائبة تقودنا إلى عالم أكثر تسامحاً. وكل عام وكل مسلم متسامح بخير بمناسبة عيد الفطر.

[email protected]
Twitter: @JosephBishara