افتتح القرآن الكريم من حيث الجمع بعد ذكر اسم الله تعالى بالحمد الذي قُدم ليكون في حصره دلالة على استحقاقه له وحده، وما يفيضه من محامد ما هي إلا من محاسن التبعية المتفرقة في الخلق، ولا يخفى على الإنسان تصورها إلا به تعالى وهو القادر على سلبها متى شاء، ولهذا أتى بقرينة (رب العالمين) ليبين العلة الموجبة لتلقين الإنسان نوعية الحمد ودرجاته التي لا يمكن الوصول إلى أبعادها، ولهذا جمعها في قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين) فاتحة الكتاب 2. وهذا الجمع يبين ملامح وصور الكمال الإلهي المتمثل في ربط الوجود بعضه ببعض حتى يصل الإنسان إلى تحليل ما سكن وما تحرك في هذا الكون مما يدلل على أن هذا الافتتاح لا يمكن أن يكون من تلقاء الإنسان القاصر بل لا بد أن يلقن من قبل رب رحيم، ولهذا كان سياق السورة كالتعليم للعبد على كيفية تنظيم الطريقة التي يلجأ بواسطتها إلى الله تعالى سواء في الأمور العبادية التي لا تستثنى منها السورة أو ما يقارب ذلك من تقلبات المسيرة العامة للإنسان الذي يبدأ أعماله بألفاظ تتناسب ومقام العبودية الشاملة التي تلقاها من السياق التعليمي الذي أنزله الله تعالى وجعله مفتاحاً لكتابه من حيث الترتيب التوقيفي.

من هنا يظهر أن قوله تعالى: (الحمد لله) هو بمنزلة ثناء العبد على الأفعال الاختيارية لله تعالى لكن بتعليم منه جل شأنه، وهذا ما يجعلنا نصل إلى أن الأمر لا يتعدى إلى أكثر من تكرار الوصف المرتب مرة بعد مرة ابتداءً من قوله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) فاتحة الكتاب 1. الذي يكون مسبوقاً بمحذوف تقديره.. قولوا: (بسم الله......الخ) ثم.. قولوا: (الحمد لله......الآية) وهكذا باعتبار أن المقام العام الذي يصل العبد إليه وإن كان متفاوتاً في درجاته يظهر في القصور الذي يجعله لا يرقى إلى الاحاطة بحمد الله تعالى من تلقاء نفسه، باستثناء من خصهم تعالى وجعلهم أقرب إلى معرفته وذكر محامده بالأصالة دون التبعية التي أشرنا لها فتأمل. من هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (سبحان الله عما يصفون***إلا عباد الله المخلصين) الصافات 159-160. أي أن الوصف الذي يطلقه العباد على جلال الله تعالى لا يمكن أن يفي بالغرض الذي يليق به سبحانه، ولهذا أتى بما يقرر الكلام السابق ليبين عدم قدرة الإنسان في وصف محامده باستثناء من وصفهم بـ (المخلصين) من عباده وهذه الحقيقة ظاهرة في متفرقات القرآن الكريم التي تشير إلى هذا المعنى، كما في قوله تعالى: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء) إبراهيم 39. وقوله: (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور) فاطر 34. وكذا قوله: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) يونس 10.

وغير ذلك من الآيات التي تجعل الحمد مقروناً بوصف عباد الله الذين أخلصهم واطلعهم على أسرار المعرفة الخاصة التي توحي بأقرب الوجوه الموجبة للحمد الذي لا يصل إليه إلا من ارتضى من عباده المخلصين، كما بين هذا الأمر في قوله تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) الأنعام 75. وقوله: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) الإسراء 1. وكذا قوله: (ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) النمل 15. ولما كانت هذه المراحل لا تتأتى إلى عامة الناس عدل القرآن الكريم إلى تلقينهم حمد الله تعالى دون الأصالة الصادرة من المخلصين والتي أشرنا لها فتأمل.

قوله تعالى: (رب العالمين) هو النتيجة المثلى لقوله: (الحمد لله) فكأن مادة التلقين أشارت إلى العلة التي لا يمكن أن يختص بها إلا من كان رباً للعالمين، والرب هو المالك على الأصالة ولا تطلق على غيره إلا بالإضافة كقولنا رب الدار ورب السوق أي مالك الدار ومالك السوق وهكذا، ومصطلح: (عالمين) يعني جمع عالم والعالم ليس له مفرد من جنسه ويعني المركبات التي اجتمعت على صفة واحدة كقولنا عالم الإنسان، عالم الحيوان، عالم النبات، وعالم الجماد إلى غير ذلك، فقوله تعالى: (رب العالمين) يعني رب هذه المجموعات التي أشرنا لها، والرب مشتق من التربية، كما في قوله تعالى: (وربائبكم اللاتي في حجوركم) النساء 23. أي أنتم من يقوم بتربيتهن، ولهذا يظهر في المصطلح إن الله تعالى هو المربي والمالك.

قوله تعالى: (العالمين) يتفرع حسب متفرقات القرآن الكريم إلى اتجاهات مختلفة يجمعها رابط واحد منها:
أولاً: أهل كل زمان، ويشهد لهذا قوله تعالى: (أتأتون الذكران من العالمين) الشعراء 165.
ثانياً: الجن والإنس، كما في قوله: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) الفرقان 1.
ثالثاً: عامة الناس، كما في قوله: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) آل عمران 42.

والنتيجة الجامعة لمعنى (رب العالمين) يصورها القرآن الكريم في اللقاء الذي جمع موسى وفرعون عندما أراد الثاني تعريفاً لمعنى رب العالمين، كما في قوله تعالى: (قال فرعون وما رب العالمين) الشعراء 23. فأجابه موسى، كما في قوله تعالى: (قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) الشعراء 24. فما كان من فرعون إلا أن ينظر لمن حوله تهكماً بموسى ليدعوهم إلى الاستماع المبطن بشد الانتباه، كما في قوله: (قال لمن حوله ألا تستمعون) الشعراء 25. فأجابه موسى، بقوله: (قال ربكم ورب آبائكم الأولين) الشعراء 26. فما كان من فرعون إلا أن يصفه بالجنون، كما نقل الحق ذلك في قوله: (قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) الشعراء 27. ثم بعد ذلك ختم موسى الإجابة بقوله: (قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) الشعراء 28. والطباق ظاهرة في (لمجنون) و (تعقلون).. وبهذا السياق دخلت جميع الأشياء التي عددها موسى (عليه السلام) في معنى رب العالمين.

من كتابنا: القادم على غير مثال

[email protected]