تتفق أغلب الآراء أن الإستراتيجية الأمريكية بعد سقوط نظام صدام البائد لسبع سنين وانسحاب اكثر من 100 الف مقاتل في الواقع الراهن وبقاء 50 الف عسكري للاستشارة والتدريب، لم تقدر على رسم طريق لوضع العراقيين على واقع جديد يختلف عن زمن الحكم السابق بالرغم من الديمقراطية القلقة التي اخذت طريقها للحكم في البلاد، وقد اتسمت هذه الاستراتيجية بما يلي: اجتياح الساحة العراقية من قبل الإرهاب الإقليمي والدولي حتى باتت مقاطعات كبيرة من الوحدات الإدارية العراقية لفترات معينة ترضخ تحت سيطرة القوى الإرهابية خاصة في المناطق التي تقطنها أغلبية سنية، ومشاهد يومية دموية في بغداد وفي مناطق أخرى من البلاد بفعل العمليات الانتحارية التي وجدت لنفسها أرضية خصبة للفتك بأرواح الأبرياء من العراقيين صغارا وكبارا، وتدهور اقتصادي رهيب في واقع الحياة المعيشية نتيجة تدهور الخدمات وفقدان الكهرباء وغياب الحاجات الأساسية للحياة العامة واليومية، وضمور أركان الدولة الحقيقية وغياب حضورها في تأمين الحاجات العامة للشعب، وظهور مجموعات إرهابية وإجرامية متخصصة بأعمال القتل والسلب والنهب والخطف والاغتصاب والسطو وارتكاب الجريمة المنظمة والخطف الجماعي لمجموعات كبيرة من المواطنين والعاملين في دوائر الحكومة، وسيطرة قوى متنفذة تابعة للأطراف السياسية في السلطة على الساحة الحكومية والإدارية والحياتية والاقتصادية والتجارية في الشارع العام وفرض قوتها ودورها على الأجهزة والدوائر والوزارات، وانشغال القيادات السياسية خاصة المتحكمة بالسلطة بالسيطرة على المال العام والموارد المالية والنفطية لأغراض شخصية وحزبية من خلال التحكم بالمنشآت والأنابيب ومؤسسات الصناعة النفطية، وفقدان البرامج الحكومية لتأمين مستوى معين من المعيشة بالحد الأدنى فمواد البطاقة التموينية أصبحت تتلاشى ومحتويات السلة التموينية للعائلة أصبحت تتبخر وكأن هناك سلب ونهب للأموال المخصصة لهذا البرنامج، وتبخر المنح والمساعدات والمعونات المالية الكبيرة التي أعلنت عنها السلطة الأمريكية بعشرات ومئات المليارات من الدولارات لأعمار البلد في مشاريع وهمية اشتركت فيها شخصيات سياسية أمريكية وعراقية على نهبها واختلاسها، وغرز حالة من الفساد الرهيب التي تقشعر لها النفوس في الواقع العراقي جعلت منه أن يحتل موقع متقدم في القائمة السنوية لمنظمة الشفافية الدولية دون حياء ودون خجل من الحكومة العراقية.

هذه المظاهر المتسمة بالدمار والخراب التي اتسمت بها الوجود الأمريكي في العراق، وبعد ان عارضه مجموعات عراقية في الداخل والخارج في السابق، هذه المجموعات قلبت من معادلتها لتطالب ببقاء القوات الامريكية، وبدأت تلعن اليوم الذي جاء فيه صدام الى الحكم، وخطت ترفض ان تحن انصارها وافراها لأيام الحكم البائد استنادا إلى قبولها بالوجود الامريكي، وبدأت تعمل بلغة جديدة غير مألوفة على وسائلها الاعلامية من خلال مسلسلات بفضائياتها على ادانة النظام السابق وبيان قمعه واستبداده وطغيانه واضطهاده لمكونات الأمة العراقية بجميع قومياتها ومذاهبها بعد ان كانت ترفض ادانتها، ولو أن البعض من هذه المجموعات على مستوى الافراد والجماعات ينعمون بخيرات تركات النظام السابق بفعل سرقتها والاستيلاء عليها. ولكن لا ينكر ان صدام المستبد كان في كل الأوقات شديد الحرص على توفير كافة الحاجات الأساسية من مواد غذائية ومحروقات والخدمات الرئيسية من كهرباء ومياه شرب وخدمات صحية وبلدية وبانتظام وبأسعار مناسبة للمواطن والعائلة العراقية ولو ان هذه السياسة كانت مسخرة لتهيئة العراقيين للحروب وجعلهم حطبا للنيران.

أمام هذا الواقع المتناقض الذي يعيشه أهل العراق نتيجة مواقف الاطراف السياسية فيه، وأمام الحالة الجديدة لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة رئيسها اوباما لإعادة النظر بالسياسة والأستراتيجة المتبعة في البلاد، خاصة بعد سيطرة الحزب الديمقراطي على مجلس الشيوخ وتحقيق مطالبتهم بانسحاب الجيش، فإن الحالة السياسية والإقتصادية التي يعاني منها الشعب العراقي والمتسمة بمالظاهر المدمرة للبنية الحياتية العراقية، فإن الحالة تسترعي انتباها شديدا وتركيزا كثيفا من قبل الرئيس الامريكي لمعالجة الحالة المعيشية والحياتية والاقتصادية للعراقيين من باب الحكمة والتعقل ومن باب المنظور الإنساني، لأن الوضع المعيشي بات ينحدر إلى مستويات متدنية في العراق نتيجة السياسات الخاطئة وغير المسؤولة للسياسة الامريكية السابقة ولأرباب الفساد لدى المسؤولين في بغداد وواشنطن، وبات اقتصاد الدولة ومواردها ومال الشعب مرهونا بأيدي مجموعات متسلطة خضعت هذه الموارد العامة لأغراضها ومنفعها الفردية والحزبية، ولا يعرف أين ذهبت موارد العراق منذ سنة السقوط وحتى الآن خاصة النفطية منها والتي بلغت 300 مليار دولار طوال السنوات الماضية.

ولكي تكون خطة المراجعة التي يريد أن يتبناها الرئيس الأمريكي بخصوص سياسة حكومته تجاه العراق بعد انتهاء مهمة الحرية وبدء مهمة الفجر الجديد، فان الحالة العراقية التي يجب أن يتم التركيز عليها تتطلب وضع الحلول العاجلة المناسبة لكل القضايا والمشاكل الحياتية التي يعاني منها الشعب العراقي، خاصة المشاكل التي تطرقنا إليها والمتعلقة بالحالة المعيشية والاقتصادية للمواطن، والذي أخذت تنهال على الاغلبية منهم بصعوبة العيش وعدم توفر الخدمات والحاجات الأساسية من كهرباء وماء وغلاء فاحش في الأسواق وتضخم رهيب بدأ يفتك بجيوب العراقيين والفساد الفتاك المستشري في جميع القطاعات الحكومية وغير الحكومية الذي جعل من الموارد العامة للدولة ضيعة عند السمؤولين الفاسدين، والحالة الأمنية المنفلتة التي أصبحت تتم المتاجرة بها في وضح النهار بين أطراف سياسية حسب الولاءات الخارجية والحسابات الإقليمية التي تخضع لها تلك الجهات والتي أدت إلى إغراق العراقيين في حالة مستمرة من حياة غير طبيعية متسمة بالخطورة الشديدة مما أدت إلى زرع حالة محبطة متسمة باليأس الشديد في نفوسهم لعدم ظهور أي أمل أو بارقة ضوء صغيرة من نهاية النفق المظلم الذي يعيشه العراق.

إزاء هذه الرؤية الميدانية لوقائع الأمور في حياة العراقيين، وأمام النية الجديدة للحكومة الامريكية لوضع استراتيجية جديدة للتعامل مع المعضلة العراقية بحالتها الراهنة ومنظورها المستقبلي، فان الرؤية الجديدة تتطلب وضع آليات محكمة وخارطة طريق فعالة نابعة من الواقعية والمسؤولية التاريخية تجاه العراقيين لطرح مبادرات جدية شاملة تأخذ في حسبانها معالجة جميع القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والخدماتية، لمساعدة العراقيين بجميع قومياتها وأديانها ومذاهبها في تأمين الأمن والاستقرار العام وتأمين حالة حياتية مناسبة تتسم بمستويات جيدة من المعيشة لكل مواطن ولكل عائلة عراقية.

ولغرض الخروج برؤية واقعية عن الخارطة المناسبة من الاستراتيجية المؤمل طرحها، نأمل أن تتسم الخطة الجديدة للرئيس الامريكي اضافة الى جانبها الأمني الجوانب الاقتصادية والخدمية والادارية المتعلقة بحياة العراقيين بما يلي: وضع خطط اقتصادية فعالة لمعالجة الحالة المعيشية والحياتية الفقيرة والقاسية للاغلبية التي تتسم بدخل ضئيل والعمل على رفع مستوياتها، وتأمين المحروقات وتوفيرها بشكل متواصل، وطرح برنامج وطني كبير لامتصاص البطالة وتوفير فرص عمل كثيرة خاصة للشباب الذين يعانون من مشاكل اقتصادية وحياتية ومعيشية كبيرة، والعمل للقضاء على ظاهرة الغلاء التي بدأت تحد من القدرات الشرائية للمواطنين وتوفير الحاجات الأساسية والخدمات الرئيسية، وتأمين راتب شهري معتبر لكل عائلة فقيرة، ووضع برامج وطنية فعالة للتخفيف من الفساد الرهيب المستشري في أوساط أغلب قطاعات الحكومة من مسؤولين واحزاب، ووضع برنامج وطني لتامين السكن لكل عائلة، وإعادة الاعتبار لكل شخصية عراقية من النظام السابق ممن يتسم فيهم الوطنية والمهنية للاستفادة منهم على أساس الحقوق والواجبات المترتبة حسب الدستور الدائم.

بايجاز هذه أهم القضايا الآنية التي تلزم أن تتضمنها الاستراتيجية الامريكية الجديدة للرئيس الامريكي تجاه العراق بالتنسيق مع حكومة بغداد الحالية او المقبلة، وهي حساسة ومهمة لتعلقها بالحياة اليومية للمواطنيين وللعوائل التي بدأت تعاني من شغف العيش بعد أن عانت من الإرهاب ومن القتل الطائفي العشوائي والتي دفعت من جرائها مئات الالوف من الضحايا والارواح البريئة، ولا شك أن الاستراتيجية الجديدة في حالة عدم احتوائها على برامج اقتصادية واجتماعية وخدمية عاجلة، فان الحالة ستظل تسير الى الأسوء وستتجه الى انهيار تام في البنية الحياتية والامنية والاقتصادية وهذا ما سيحمل معها كارثة على العراقيين وعلى المنطقة برمتها.

[email protected]