وسط كم النفاق الهائل وعمليات غسيل الدماغ، والهروب من الواقع، يظل التاريخ هو الشاهد الأوحد الذي لا يعرف المجاملة ولا تعرف أحكامه وحوادثه الخضوع لأي نوع من الإبتزاز، ففي صفحاته و أحداثه يكرم المرء أو يهان وتتحدد من خلال أحداثه الكثير من الحقائق التي يحاول البعض التغطية عليها لربما لفترة معينة ولكن ليس إلى الأبد، فإن لكل شيء نهاية ولكل قصة خاتمة.
وتحل في يوم 31 أغسطس/ آب الذكرى السنوية الرابعة عشر لجريمة إجتياح قوات الحرس الجمهوري التي كانت تابعة لصدام حسين لمدينة أربيل بناءً على طلب رسمي و نداء إستغاثة من قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني و السيد مسعود بارزاني شخصيا للقيادة العراقية وقتذاك بهدف إنتزاع مدينة أربيل من هيمنة حزب جلال طالباني ( الإتحاد الوطني الكردستاني )!! بسبب تصاعد الخلاف الشرس بين الحزبين الكرديين الرئيسيين حول عوائد وواردات نقطة ( إبراهيم الخليل ) الحدودية التي سلمها الجانب التركي لسيطرة حزب مسعود بارزاني وحيث حصد عوائدها وحرم منها حزب جلال طالباني بالإضافة إلى الصراع التاريخي القديم بين الحزبين وكذلك الخلاف الشديد في التحالفات الإقليمية.
عام 1991 وبعد أن إنسحبت الإدارة الحكومية العراقية من كردستان بعد الإنتفاضة وفشل المباحثات الكردية مع صدام حسين في الوصول لتوافق سياسي معلوم كانت هناك إتصالات سياسية و امنية و تجارية على مستوى عال للغاية بين قيادة حزب مسعود بارزاني وبين نظام صدام ولم تكن الزيارات تنقطع بين الطرفين، أما جلال طالباني أو الزعيم الآخر للجبهة الكردية فكان مغضوبا عليه دائما من صدام وحيث تم إستثنائه من جميع قرارات العفو الصادرة من صدام نحو المعارضين العراقيين، كما كانت علاقة حزب طالباني بالنظام الإيراني أكثر من وثيقة وراسخة إضافة للجانب السوري أيضا لكون تأسيس حزب الإتحاد الوطني الكردستاني قد تم أصلا في دمشق عام 1976 كما أن للسوريين تأثير كبير جدا على الحزب في مختلف النواحي وخلال عام 1987 أعلن أنوشيروان أمين وكان أحد قادة حزب جلال طالباني بأنهم يستلمون كل الأسلحة من إيران لجميع الصنوف بإستثناء الطائرات!! أي أن تعاملهم مع إيران كان أكثر من مصيري، في ظل تلك الظروف كان إمتعاض جماعة جلال طالباني كبيرا للغاية من إنفراد حزب مسعود بواردات نقطة الكمارك الحدودية مع تركيا ( إبراهيم الخليل )! كما كانت الرغبة في السيطرة على كردستان وحسم الصراع جلية للغاية لديهم فطلبوا مساعدات لوجستية من قوات حرس الثورة الإيرانية بغرض السيطرة على أربيل و إنهاء سيطرة حزب مسعود، وفعلا فوجيء مسعود بارزاني بأصوات المدافع الإيرانية الطالبنية وهي تدك مصيف صلاح الدين فهرع على الفور لطلب النجدة و الغوث من النظام العراقي بعد أن توجه بنفسه لبغداد لذلك الغرض في 22 آب/ أغسطس 1996 وتم الإتفاق على دخول الجيش العراقي لمدينة أربيل وضرب قوات الإتحاد الوطني ( وتحرير ) المدينة و تسليمها لقوات مسعود بارزاني وهو الأمر الذي أعلنه جهارا طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقي وقتذاك و المعتقل حاليا بقوله ( إن مسعود بارزاني قد قدم طلبا لسيادة الرئيس صدام بالتدخل لرفع الخطر الأجنبي و إنهاء خيانة و تآمر جلال )!!!
وفعلا توجهت قطعات الحرس الجمهوري بموجب أمر القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية من معسكراتها في كركوك و تكريت و الموصل و أكتسحت مواقع حزب جلال طالباني في أربيل وفتحت الطريق نحو السليمانية وكان بإمكانها التقدم و إنتزاع السليمانية من سيطرة جماعة جلال لولا الخوف من تدخل الطيران الأمريكي و إنعدام الغطاء الجوي العراقي!! وقرأ المذيع العراقي الشهير بشواربه الكثة ( مقداد مراد ) في يوم في يوم 31/ آب/ 1996 بيان الإنتصار في عملية ( آب المتوكل على الله )!! بقوله:
الله أكبر.. الله أكبر.. لترقص أزهار النرجس في أربيل لتعانق سعف النخيل في البصرة )...!
وبدأت فصول المجزرة الكبرى ضد المعارضة العراقية والتي لم يفتح فصولها ولا ملفاتها أحد بعد عام 2003 رغم فتحهم لبعضا من ملفات جرائم نظام صدام ضد الإنسانية...!.. ففي يوم 2/9/1996 إقتحمت عناصر من المخابرات العراقية برفقة البيشمركة الكردية مقرات أحزاب الإتحاد الإسلامي الكردي و الجبهة التركمانية والمؤتمر الوطني الموحد ( أحمد الجلبي ) وأعتقلت العديد من العناصر وقتلت عناصر أخرى بمساعدة أدلاء من بيشمركة مسعود بارزاني، وكانت نتائج إجتياح أربيل على النحو التالي:
الإستيلاء على جميع مكاتب ومقرات المعارضة العراقية ( الجبهة التركمانية/ الإتحاد الوطني الكردستاني/ المؤتمر الوطني/ المجلس الأعلى/ الحركة الملكية الدستورية/ منظمة العمل الإسلامي/ الحركة الآشورية/ الحزب الشيوعي الكردستاني/ الإتحاد الإسلامي الكردستاني )؟.
سقوط مئات القتلى من المدنيين الأبرياء.
نزوح أكثر من 100 ألف مواطن صوب إيران.
أعدام أعضاء من حزب جلال طالباني أمام عيون عوائلهم في ( تانجارو) جنوب شرق السليمانية.
وخسائر أخرى كبرى.
أما حجم القوات العراقية المشاركة في عملية ( آب المتوكل على الله ) فكانت:
45 ألف عنصر من الحرس الجمهوري العراقي.
400 دبابة و مصفحة.
طائرات هليوكوبتر هجومية
مدفعية ميدان.
فرق إسناد من الجيش / الرابعة و السابعة و الثامنة.
قوات البشمركة الكردية التابعة لحزب مسعود بارزاني!.
بعد تلك الدراما الدموية تم إسدال الستار على فصول تلك المسرحية الدموية بإعلان صحيفة العراق الكردية في مانشيتها الرئيسي ليوم 2/ 9 / 1996 ما يلي:
( مسعود البارزاني يشكر القيادة لإستجابتها لنداء تحرير أربيل من عبث جلال وزمرته العميلة لإيران )!
فيما جاء مانشيت آخر كبير بالقول:
( إنهاء دور جلال القذر إنتصار للشعب العراقي المجيد )!
ما ذكرناه في السطور السابقة ليس سوى إستعادة بسيطة لأحداث وذاكرة تاريخية قريبة جدا لا نهدف من ورائها سوى تنشيط الذاكرة الوطنية و التاريخية و التأكيد على أن التاريخ لا يجامل أحد وبأن الحقيقة تظل هي الأقوى من كل سيوف القمع و التشويه و معاول الهدم... لا ينبغي أبدا الهروب من التاريخ فهو الحكم و الفيصل في ظل الفوضى السائدة... و آه منك أيتها الحقيقة.. كم لك من الخصوم؟.
التعليقات