رجب طيب أردوغان شعّر بالصدمة وهو يسمع تفجير خبر لقاء أطراف من حكومته بالزعيم الكردي الأسير عبدالله أوجلان، وبدّت quot;الصدمةquot; أشد، حينمّا سمع الشعب التركي أخبار حكومته وهي quot;ترجو أوجلان للتدخل لدى حزب العمال الكردستاني لوقف العمليات العسكريةquot;، وquot;إعلان هدنةquot; إلى حين إنطواء المرحلة الحالية، والإنتهاء من عملية الإستفتاء على دستور انقلاب 1980 الذيّ يقول حزب العدالة والتنمية الحاكم بأنه quot;ضمّنه تعديلات واصلاحات عديدةquot;.

أردوغان تلعثم في الرد، ونفى الخبر أول الأمر، لكنه عاد وquot;رمى بالحملquot; على كاهل الإستخبارات العامة، متحججاً بان هذه الأخيرة هي quot;من مؤسسات الدولةquot; وليست تابعة لحكومة حزبه، وأن اللقاء، فوق ذلك كله، جرى لquot;دواع أمنيةquot;!. وزير العدل في حكومة الحزب الحاكم، سعد الله أرغين، كذبّ رئيسه وأفادّ عن الواقعة في رده على أسئلة الصحفيين بأن quot; كل اللقاءات التي تجري مع أوجلان تتم بمعرفة ومتابعة مباشرة من وزارة العدل نفسهاquot;.

خبر أجراء حكومة حزب العدالة والتنمية لقاءات مع أوجلان، أعلن عنه لأول مرة، مراد قره يلان القيادي الكبير في حزب العمال الكردستاني. قره يلان قالّ بأن قرار حزبهم وقف إطلاق النار لغاية ال 20 من شهر أيلول القادم جاء بعد quot;ضوء أخضر من قائدنا أوجلانquot;، وبدعوة مباشرة من مؤتمر المجتمع الديمقراطي( منبر سياسي تم تأسيسه لقيادة وتنظيم العمل السياسي والإجتماعي والتنظيمي في ولايات كردستان، والإشراف على مشروع {الإدارة الذاتيّة الموسعة}، ويرأسه السياسي الكردي المخضرم أحمد ترك). والأنباء التي ترشحت من مصادر قريبة من حزب العمال الكردستاني تتحدث عن لقاءات أجرتها أوساط مسؤولة في الحكومة مع أوجلان بغية quot;دعوة الكردستاني لوقف إطلاق النار، ووضع حد للعمليات العسكرية النوعيّة التي زلزلت أركان الحكومة والجيش منذ بداية حزيران الماضيquot;. والأنباء نفسها قالت بأن أوجلان quot;رفضّ وبشدة التدخلquot;، وقال بأنه quot;سبق وأن تدخل وطالب بوقف اطلاق النار، لكن الدولة فهمت تلك المبادرة على إنها ضعف وتراجع، ووسعّت من حملات الحرب والقمعquot;. ولكن أوجلان طالب الحكومة، كشرط أمام وقف الجانب الكردي للعمليات العسكرية، بquot;الإفراج عن 1700 سياسي و4000 طفل كردي معتقل، وتضمّين الدستور الجديد الإعتراف بهوية الشعب الكردي، وإلغاء بند ال 10% في الإنتخابات العامة، ووقف العمليات العسكرية في كردستانquot;. وأخبرّ أوجلان مؤتمر المجتمع الديمقراطي، عبر محاميه، بأمكانية طرح إقتراح يدعو حزب العمال الكردستاني لوقف إطلاق النار أو quot; تجميد العمليات العسكرية الهجوميةquot; لغاية ال 20 من شهر أيلول القادم، على أن تكون هذه المدة قابلة للتمديد في حال ظهور quot;بوادر حسن نيّةquot; من جانب الدولة التركية.

مايحصل الآن لايشي بوجود أي تطوّر في موقف الدولة التركية. الجيش التركي مايزال يشن عملياته العسكرية، وبشكل خاص في ولايات شرناخ وديرسم وجوليك. وقد سقط في هجمات الجيش التركي تلك حتى الآن 7 مقاتلين كرد، كانوا في quot;حالة الدفاع المشروع عن النفسquot;. والأنكى أن النظام الإيراني وما أن سمع بوجود هدنة وquot; مشروع تفاوضquot; بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني، حتى شن عملية عسكرية بدوره، إستهدفت قوات حزب العمال الكردستاني( وليس حزب الحياة الحرة الكردستاني، المسؤول في الجبهة الكردية الإيرانية) وأسفرت عن فقدان 7 مقاتلين كرد لحياتهم. قوات الكردستاني ردّت بمهاجمة أنبوب الغاز الإيراني التركي في ولاية quot; وانquot; ودمرّت جزءاً منه والحقت به خسائراً كبيرة.

المعارضة في أنقرة سارعت، فور سماعها الخبر، بإتهام حزب العدالة والتنمية بquot;التنازل عن السيّادة التركية والتراجع أمام الإنفصاليينquot;، وذلك في محاولة للتأثير في الأوساط القومية والكمالية والنيل من شعبية العدالة والتنمية هناك.

وسائل الإعلام في تركيا تخوض الآن في القضية. هناك من يعتبر الأمر مشجعاً ويعترف بانه لامفر في النهاية من الحوار مع أوجلان وحزب العمال الكردستاني، مسوقين نماذج جنوب أفريقيا وإيرلندا وفلسطين، وموضحين بأن حركات التحرر هناك وزعماءها كانوا يوصفون بالإرهاب إلى حين الإعتراف بالواقع والجنوح للحوار لحل تلك القضايا. والبعض الآخر وجدها فرصة للنهش في حزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان لدوافع سياسية وعنصرية ناكرة للحق وللوجود الكردي برمته، في المقام الأول.

حزب العدالة والتنمية محصور الآن في الزاوية، فهو يريد تمرير الدستور الذي وضعّه في إستفتاء عام في 12 أيلول القادم، وبدون موافقة حزب السلام والديمقراطية( الذي يوصف بأنه الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) قد لايحقق الإستفتاء نسبة القبول. هذا فضلاً عن أن عمليات حزب العمال الكردستاني النوعيّة شكلّت صداعاً كبيراً للحزب الحاكم، ودفعته للإنشغال بها وإهمال شؤون أخرى حيّوية ومفصليّة في هذا الوقت. واللقاءات الأخيرة مع أوجلان جاءت من هذا الباب، وكانت إعترافاً صريحاً بدور الرجل في السياسة التركية ومكانته كزعيم ورمز للشعب الكردي في البلاد، ذو كلمة فصل قد تصنع السلام والهدوء، كما تصنع الحرب والمواجهات. حزب العدالة والتنمية يعّي بأن الدستور الحالي قد لايٌمرر إذما بقي أوجلان وحزب العمال الكردستاني ناقمين على الأوضاع في تركيا. لذلك يحاول التهدئة لحين تمرير الدستور دون تقديم أي ثمن مقابل ذلك. أوجلان يعلم حقيقة نوايا الحزب الحاكم وزعيمه أردوغان، لذلك فقد رفض وقفاً كاملاً لإطلاق النار، وحدد المدة بال 20 من شهر أيلول، لإختبار نوايا الحكومة ومراقبة ما إذا كانت ستقبل بشروطه في إطلاق سراح السياسيين المعتقلين وتضميّن الهوية الكردية في الدستور وإزالة بند ال 10% في الإنتخابات، ووقف العمليات العسكرية أم لا.

لكن أيّ يكون الأمر، فلجوء الحكومة إلى الإلتقاء بأوجلان وطلب تدخله، يٌعّد إنتصاراً سياسيّا باهراً لحزب العمال الكردستاني وزعيمه وفشلاً واضحاً لسياسة الإقصاء والتهميش واستخدام الدين والمال، والإرتهان على الحرب والحسم العسكري، التي لجأ إليها حزب العدالة والتنمية الحاكم الإسلامي منذ إستلامه السلطة في تركيا في 2001.

الحكومات التركية كلها سعّت إلى تهميش دور أوجلان والإلتفاف عليه وإخراجه من المعادلة السياسية، وكذلك من ضمير وقلب الشعب الكردي عبر تشويه صورته والإفتراء عليه، ومحاولة الفصل بينه وبين رفاقه المرابطين في الخارج، ولكنها فشلت في ذلك فشلاً كبيراً، وها هي تقر الآن بالحقيقة وتهرع إلى سجن جزيرة إيمرالي، حيث يٌحتجز الرجل منذ 1999 في ظروف عزلة دائمة، لتطلب منه التدخل ووقف عمليات الرد العسكري في الخارج، وهو عين الإعتراف بدوره وبقوّة حزبه المتعاظمة، سياسيّا وعسكرياً، بعد 11 عاماً على مؤامرة إختطافه، تلك المؤامرة التي إعتقدت تركيا وغيرها بأنها بداية النهاية لثورة حزب العمال الكردستاني، ولم يكن ذلك أبداً.

السياسيون في أنقرة يعلمون حقيقة إرتباط سوّاد الشعب الكردي بشخص عبدالله أوجلان وثوّار حزب العمال الكردستاني. فلذلك تراهم يتقرّبون من الكرد ومن مطامحهم القومية ويبتعدون عن مهاجمة أوجلان وحزب العمال الكردستاني حينما يزورون مناطق وولايات كردستان الشمالية. كمال كلجدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، قال في زيارة له لمدينتي بينغول والعزيز الكرديتين، بإنه quot;لايستبعد حوّاراً مع حزب العمال الكردستاني لإنهاء الصراع الدائر في البلادquot;. كلجدار أوغلو، الذي بدى مرنّاً ودوداً، وقبل ذلك ببضع أيام، وفي لقاء مع مجلة ( دير شبيجل) الألمانية كان قد رفض أي حوّار مع الكردستاني وعدّه quot;إرهابياً خطيرا لايمكن التحاور معه مهما حصلquot;. رئيس الوزراء أردوغان فعلها غير مرة، عندما زار ديار بكر في صيف 2005 وتحدث عن الكرد وعن قضيتهم المهمية التي قال عنها إنها quot; قضيتي الشخصية وسوف أحلهاquot; ولكنه مالبث أن نسي كلامه حينما قفل إلى أنقرة. رئيس الجمهورية عبدالله غول خصّ ديار بكر بأول زيارة له كرئيس للدولة في 2007 وتحدث عن quot; التنوع الثقافي الذي هو مصدر قوّة الجمهورية التركيةquot; لكنه عاد إلى قوقعته الإيديولوجية ونكران هوية الكرد، عندما رجع إلى قصر الحكم في العاصمة.

حزب العدالة والتنمية في تراجع مستمر أمام حزب السلام والديمقراطية في كردستان. إستطلاعات الرأي تشير إلى خسارته لقواعد واسعة من جمهوره الكردي، بسبب نكثه لوعوده بحل القضية الكردية وإستمرار رهانه على سياسة الحرب والحسم العسكري، والدماء الغزيرة التي سٌفكت إبان سنوات حكمه. الإنتخابات القادمة ستطرح معادلات جديدة. إذما سارت الأمور على ماهي عليه الآن، فإن حزب السلام والديمقراطية ( الأوجلاني!) سيتمكن من إدخال مايقارب ال 40 نائباً إلى مجلس النواب التركي، وسيسيطر على البلديات في كل من آغري، بينغول، موش، بدليس. أي ستصبح جل مساحة إقليم كردستان في قبضته، وهو مايعني تطبيقاً لمشروع quot; الإدارة الذاتية الموسعةquot; الذي أقترحه أوجلان، وتبناه مؤتمر المجتمع الديمقراطي، في ولاية كردستان التاريخية، تحت سمع وبصر الدولة التركية.

كان من الممكن أن تثمر اللقاءات الرسمية الأخيرة مع أوجلان، وكذلك الهدنة الأخيرة التي أعلن عنها حزب العمال الكردستاني، لو عمد الحزب الحاكم إلى تنفيذ شروط الزعيم الكردي واحداً تلو الآخر، ولكن الإصرار في طريق الخداع والمراوغة والإعتماد على سياسة الحرب والإجتثات أفشل كل تلك الفرصة الثمينة، وأهدر المزيد من الوقت والدم.

الجانب الكردي سيعود إلى وضعية الهجوم في مطلع صباح ال 21 من أيلول القادم، وربما تقصي مقاطعة المواطن الكردي للإستفتاء القادم، دستور الحزب الحاكم عن التطبيق والنفاذ. وبين هذا وذاك، ثمّة أمر مؤكد وثابت، وهو أن تركيا ستعّود إلى المربع الأول: الدولة تمضي في الحرب لسحق الشعب الكردي والنيل من واجهته السياسية والعسكرية حزب العمال الكردستاني، بينما يلجأ هذا الأخير إلى الرد، الذي سيحاول أن يكون نوعيّاً ومؤثراً، يصيب السياسة الرسمية في مقتل، شاملاً ومدويّا، في كل ساحة ومكان.

[email protected]