قد لا يدرك المشاهدون في الوطن الأم مدى حزن أشقائهم العرب الأمريكيين وهم يكتشفون أنهم لم يتحرروا من ديكتاتورية العقيدة الواحدة التي يفرضها، بقوة سلاح السلطة السياسية والدينية في أغلب الدول العربية والإسلامية، دهاقنة ُ الفكر الفاسد، وتجار ُالطائفية والعنصرية، والمروجون للأحقاد والضغائن.
فهم اليوم، وقد هربوا إلى آخر المعمورة، عادوا محاصَرين وملاحقين ومستهدفين من جديد بدعاة الفكر الفاسد، أنفسِهم، مع الأسف الشديد.

فمن مساويء تكنولوجيا الفضاء أنها أتاحت الفرص أمام القتلة الذين يقتلون في بلدانهم بالخنجر والسيف والمفخخة ليقتلوا الناس بالصوت والصورة الملغَميْن بكل أنواع السموم والجراثيم.

فقد استغلوا فضاء الحرية الإعلامية في أمريكا فصدروا إلى جماهير المغتربين فضائياتهم الفاسدة المتخلفة لتقتحم عليهم منازلهم الآمنة، وتفسد حياتهم، وهي التي كان الهرب منها ومن فرسانها أولَ أسباب اضطرار الملايين منهم إلى الخروج من ديارهم، والاغتراب في بلاد الله الواسعة، طلبا للسلامة، وأملا في إبعاد أبنائهم عن الأجواء الملوثة.

وإذا استثنينا بضعاً من القنوات المستوردة لأمريكا من الشرق الأوسط فإن عشرات الفضائيات الأخرى المستورَدة تمولها وتديرها مؤسسات حكومية أو دينية أو حزبية متطرفة تجاهر بالحقد والبغضاء، وتمارس أساليب الدس والوقيعة بين الطوائف والأديان والعقائد والقوميات والأعراق، وتحرض على القتل والحرق وتقطيع الأيدي والأرجل، وتجيز نسف البيوت والمدارس والمستشفيات والأسواق، بزعم محاربة الكفر وإعلاء راية الإسلام.

ولأن المجتمع الأمريكي متحضر يحترم حرية العقيدة والرأي فلم يضع أي نوع من أنواع الموانع والضوابط التي تجيز لهذه الفضائية دخولَ الأجواء الأمريكية ولا تجيزه لتلك، لحماية مواطنيها من غزو الفضائيات (المجاهدة) الملغومة المدمرة.

والمحزن أن الذي كان ينبغي أن يحدث هو أن نجد عشرات الفضائيات والإذاعات المتنورة المتحضرة التي ينتج برامجها ويدير شؤونها العرب الأمريكيون أنفسُهم، بما بلغوه من وعي وثقافة وتحضر، وبما اكتسبوه من خبرات وطاقات علمية وثقافية واقتصادية، وبما تتيحه لهم الساحة الأمريكية من حرية رأي غير محدودة، تنطلق من أمريكا نحو أشقائهم عرب الشرق العربي، لتساهم في تنويرهم، وتعمل على تحريرهم من ظلام العصور الوسطى، وتقدم لهم فكرا تقدميا نظيفا نزيها يحمل عظمة أمريكا الحضارية وثروتها التكنولوجية والعلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية الهائلة، وتعطيهم ما يفتقرون إليه في إعلام حكوماتهم وأحزابهم المتطرفة.

لكن الذي حدث هو عكس ذلك تماما. فقد وجد عرب أمريكا أنفسهم وأُسرَهم، وخصوصا أطفالَهم، محاصرين مجددا من قبل هذا الإعلام القاصر الغارق في أمراضه وعقده، وفي خراب توجهاته وأدواته.

لا أسمي هذه الفضائيات، ولكن المشاهد العربي الأمريكي يعرفها جيدا، ويعرف خطورة تأثيراتها على شرائح واسعة من العرب الأمريكيين البسطاء الذين يسهل إثارة نوازعهم الطائفية والعنصرية، وإفساد نفوسهم وقلوبهم، وإعادتهم إلى عادات وأفكار وعقائد الجاهلية الأولى.

ومن يراقب هذه الفضائيات، وأغلبُها عراقية ولبنانية وإيرانية، مع الأسف، يظن أن شركات البث الفضائي الأمريكية التي تقوم ببثها واحتضانها والترويج لها ليست بريئة. فكأنها تريد بذلك أن تثبت أننا أمة فاشلة متخلفة لا ترجى لها يقظة، وأن ديننا دين قتل وحرق، وأن حضارتنا لا تخرج من دائرة الخرافة.

فمن أجل مواجهة الإعلام المتخلف القادم من وراء البحار يتوجب على الحكومة الأمريكية وعلى الكونغرس إصدار القوانين الرادعة التي تمنع دخول فضائيات الإرهاب الديني التي تدعو إلى العنف والقتل والتكفير، مثلما تمنع المتفجرات والإرهابيين من عبور الحدود.

وإذا لم تشأ الحكومة الأمريكية أن تفعل ذلك، فلا جُناح عليها من أن تسمح لقناة (الحرة) بدخول الأجواء الأمريكية، وإيصالها إلى ملايين العرب الأمريكيين، لسد بعض الفراغ وليس كله.

فالمعروف أن الكونغرس الأمريكي ينفق ملايين الدولارات على هذه الفضائية المتنورة المتحضرة، ولكن العرب الأمريكيين لا يشاهدونها. والعذر أن القانون الأمريكي، ضمانا لحرية الرأي، منع السماح لأية إذاعة أو فضائية ممولة من الحكومة أو الكونغرس بالبث داخليا، وذلك لضمان حياد الإعلام واستقلاله.

وفي الوقت نفسه لابد من دعوة المسؤولين في قناة (الحرة) إلى استقطاب المزيد من العرب الأمريكيين، ومضاعفة مشاركاتهم في برامجها. فهذه هي الوسيلة الأكثر فاعلية لمحاصرة فضائيات الفكر الظلامي وتهميشها وكشف تخلفها وعدوانيتها، ولإبطال مفعولها المقيت.

فمما لا شك فيه أن أفضل الوسائل وأكثرها قدرة على إقناع العرب في الوطن الأم بحب أمريكا واحترام حضارتها وعدالة أهلها هو إطلاعهم على واقع العرب الأمريكان، السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي، وعرض نجاحات أبنائهم وإنجازاتهم الثقافية والعلمية والاقتصادية والسياسية، وما يتمتعون به في الولايات المتحدة الأمريكية من حرية كاملة غير محدودة في الرأي والعقيدة والعمل، ومدى عناية الحكومة الأمريكية بصحتهم وتعليم أبنائهم، والحرص على حماية أمنهم وكرامتهم.

والحقيقة أن سلاح القوة بمفرده لا يمكن أن يسود كأسلوب لمعالجة المتطرفين، بل تجب مواجهة quot;خطر التطرفquot; بإشراك الجماهير في تلك المواجهة. ولن يتحقق ذلك إلا بإعلام واع وصادق ومتحضر وجريء.