تستحق الأحداث والوقائع السياسية التي حفلت بها الساحة العراقية خلال الشهور الستة الماضية قراءات متأنية وهادئة وموضوعية لاستخلاص العبر والدروس منها وذلك من أجل الاستفادة منها في ترسيخ وانضاج تجربة النظام الديمقراطي في العراق، تلك التجربة الحديثة العهد، التي لم تبلغ مرحلة الحلم بعد، كما يقولون، وفي إشاعة مجموعة من القيم والمفاهيم السياسية والثقافية والفكرية والاجتماعية، كجزء من منظومة الوعي العام.
نزعات الأنا والاستئثار والتنافس والسعي المحموم للتشبث بالمواقع والمناصب، وتزييف وقلب الحقائق، والتقلب في المواقف، مازالت للأسف تطغي وتهيمن على سلوك نخب وتيارات وشخصيات سياسية عدة، على حساب الشراكة والتوافقات والتنازلات والوضوح والشفافية والصدق التي لا بد من توفرها من أجل بناء نظام سياسي يكون بمؤسساته وهياكله وبناه المختلفة خادما للمجتمع، وامينا على مصالحه، ومعززا لأواصر التعايش والوفاق بين مكوناته المختلفة، لا سيما اذا كان ذلك المجتمع يمتاز بقدر كبير من التنوع القومي والعرقي والمذهبي والديني والطائفي والعشائري. ليس العراق حالة فريدة ونادرة في نسيجه الاجتماعي الفسيفسائي، ولم يكن الوحيد الذي رزح تحت وطأة نظام ديكتاتوري استبدادي شمولي أهلك الحرث والنسل بفعل سياساته التدميرية والدموية، ولم يكن الوحيد الذي خرج من تجربة كهذه ليواجه تحديات كبرى، سياسية واقتصادية وامنية واجتماعية، وليس هو الوحيد الذي يشهد حراكا سياسيا محتدما طوال الوقت، حتى يبدو للمتابع في بعض الأحيان وكأنه فوضى واضطراب، وهو ربما كذلك بالفعل..
قبل الاطاحة بنظام صدام كنا نقرأ ونسمع عن سيناريوهات عديدة لعراق ما بعد صدام تصدر عن مراكز دراسات وابحاث أغلبها غربية، وما كان يلاحظ عليها، انها كانت ترسم صورا سوداوية قاتمة لعراق المستقبل حينذاك، وكان القاسم المشترك فيما بينها هو التساؤل عما اذا كان العراق سيبقى موحدا أم أنه سيتفكك مثلما حصل لدول في اوربا مثل يوغوسلافيا وتشيكسلوفاكيا والاتحاد السوفياتي. وبصرف النظر عن النوايا والدوافع والأهداف، وصحة المعطيات التي استندت اليها تلك الأبحاث والدراسات حول مستقبل العراق، فإن التساؤل الأنف الذكر، وتساؤلات أخرى تفرعت عنه لم تأت من فراغ، ولم تطلق اعتباطا، وانما كانت في واقع الأمر انعكاسا وصدى لواقع ينطوي على كثير من التعقيد والغموض بحكم عوامل تاريخية وآنية، القت بظلالها على مجمل المشهد السياسي العراقي. ولم يختلف الحال كثيرا بعد الاطاحة بنظام صدام، بل ربما رتب الانتقال من مرحلة المعارضة الى مرحلة السلطة والحكم استحقاقات أخرى إضافية، أو أنها دفعت بالاستحقاقات السابقة التي كانت كامنة الى السطح.
ولعله كان من الطبيعي ان تعبر نزعات الأنا وانعدام الثقة والطموحات الضيقة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية عن نفسها، وليتحول مشروع بناء الدولة لدى البعض الى مشروع بناء الذات الحزبية والقومية والطائفية والمذهبية على حساب الاخر.
لم نغادر بعد مخاضات مرحلة التأسيس لمشروع بناء الدولة على أسس ومعايير ومرتكزات صحيحة، ويبدو اننا بحاجة الى وقت غير قصير لانجاز تلك المهمة الصعبة، وهذا ليس غريبا ولا عيبا، لأن شعوبا وأمما سبقتنا في التجربة، كانت هي الأخرى بحاجة الى وقت طويل حتى تستكمل مقومات ومتطلبات البناء والنهوض. بيد ان ما ينبغي الاشارة إليه والتـأكيد عليه، هو أن مشروع بناء الدولة لا يتطلب فقط أموالا واستثمارات في شتى الجوانب والمجالات، ودستوراً وقوانين لا يتورع أي طرف عن تجاوز متى ما شاء وكيفما شاء، ولا يتطلب وزارات ومؤسسات تتحول بمرور الزمن الى بؤر للفساد بمختلف اشكاله وصوره، وميادين للصراع والتنافس غير الشريف على المكاسب اللامشروعة. بل يتطلب مشروع بناء الدولة ترسيخ ثقافة الشعور بالمسؤولية، وقبول الآخر، والمرونة والانفتاح، وتقديم ما هو عام على ما هو خاص، والتمييز بين مبدأ الاستحواذ على السلطة ومبدأ خدمة الدولة، والتمييز بين المعارضة من أجل البناء والمعارضة من أجل الهدم والتخريب.
لا يمكن لمشروع بناء الدولة ان ينجح وهم السياسي الوصول الى السلطة بأي ثمن. ولا يمكن لمشروع بناء الدولة ان ينجح والسياسي الفلاني يريد ان يقصي شركائه أو يجعلهم تحت مظلته. ولا يمكن لمشروع بناء الدولة ان ينجح وعقلية التحزب الضيق هي التي تهيمن على سلوك كيانات ونخب سياسية لها حضور فاعل في المشهد السياسي. ولا يمكن لمشروع بناء الدولة ان ينجح في ظل سياسة الاملاءات ومنهجية فرض الأمر الواقع وتضييق مساحة الخيارات والاختيارات.
مشروع بناء الدولة اكبر بكثير من مشروع بناء الحزب، واكبر بكثير من الإمساك بزمام السلطة، واكبر بكثير من مجموعة مقاعد برلمانية وحقائب وزارية ومواقع حكومية.
*كاتب وصحافي عراقي
- آخر تحديث :
التعليقات