خلال زيارتي الثانية للعراق في السنوات الأخير، كانت هناك مشاهد ومظاهر لم الحضها من قبل في المجتمع العراقي.
المشهد الأول
سيارات حديثة فارهة تجوب شوارع بغداد الشبه محطمة، كأن هناك تناغم وتناقض عجيب بين الحداثة وبين العصور الوسطى. ولأول مرة في العراق أشاهد عائلة عراقية مع خادمتها الأفريقية، حينما كنا بنزهة قصيرة، فقال لي أخي: إن هذا المشهد أصبح مألوفا ً في العراق. لقد دهشت حينها، فقد تركت العراق وأغلب سكانه من الطبقى الوسطى، ماعدى بعض العوائل الثرية وإستهتار بعض شباب الطبقة الحاكمة بمايملكون من سيارات جديدة. أما الآن فتلاحظ الفوارق الطبقية بشكل واضح، وتحس أن رواح الرأسمالية تسللت للمجتمع العراقي في بنيته وليس في مؤسساته وحسب. تلاحظ إنقلاب وجه العراق وتحول بوصلته نحو الديمقراطية الليبرالية بعد أن كان دكتاتورية بنفحة إشتراكية. الليبرالية والرأسمالية التي تجعل الغني غنيا ً بإمتياز والفقير فقيرا ً بإمتياز. حيث ثلة قليلة تملك، وأكثرية فقيرة تعبد.
المشهد الثاني
في نفس النزهة الآنفة الذكر، شاهدت إمرأة منقبة لأول مرة. حتى خروجي من العراق قبل عشر سنوات، لم أشاهد أمرأة منقبة في حياتي. نعم، في الغرب هذا شيء طبيعي، أما في العراق فقد كان شيئا ً جديدا ً علي. حتى أني كنت أشاهد لحى طويلة لسلفيون في زمن النظام السابق، أما الآن فقد تبخروا وتبخرت لحاهم الطويلة، لقد لبسوا ثوب التقية التي كانوا يناقشون بها كثيرا ً ويستكثروها على غيرهم. لقد أصبح المجتمع العراقي أكثر تدينا ً مما مضى، فلا أعلم لماذا يستمر كل هذا العنف.
المشهد الثالث
كل شيء لونه ترابي، الشوارع والارصفة وجدران الأبنية وواجهات المحلات التجارية. حتى السيارات التي هي حديثة يكسو داخلها التراب. أما الأشجار القليلة التي شاهدتها فكانت مكسوة بلون التراب أيضا ً. آه ما أجمل النخلة حين تركتها بسعفها الناصع الخضار ولون تمرها الذهبي الذي كان يشع نضارة، فقد كساها التراب أيضا ً. أما الوجوه المتعبة من قهر السنين فيكسوها التعب ولون السمار الغامق قشرتها الخارجية. حتى الأغنياء الذين يملكون العمل والمال فهم متعبون أيضا ً. الكل محبط حد الكآبة من الوضع السياسي الذي يكسوه لون التراب أيضا ً.
المشهد الرابع
كنوش طفلة صغيرة. أتت لبيتنا لتأخذ بعض الطعام. لقد كانت جميلة بلون عيونها وشعرها الذهبي. لكنها كانت قذرة ولم تشعر بلذة تدفق الماء على جسدها الصغير. فقلت لأختي لماذا هي هكذا. فقالت لو نظفت كنوش لماتت من الجوع، فأمها المسكينة تستجدي السيارات العابرة بعض النقود في التقاطع القريب من حينا. وكنوش معها بالطبع، فهي مهجرة وتسكن بمساكن عشوائية في المساحة المفتوحة أمام بيتنا. لقد كانت مساحة خضراء فيما مضى، أشهد غروب الشمس فيها كل يوم، أما الآن فهي أشبه بمقبرة النجف الكبيرة، لكن الأحياء يقطنونها وتسمى الحواسم. أبنة أخي الصغيرة لاتلعب مع أطفالهم! قلت لها لماذا؟ قالت إنهم حواسم. لم أدرك كيف تتسلل التفرقة والنظرة الفوقة لقلوب الأطفال البريئة.
المشهد الخامس
لو جمعت خرائط الدنيا بإجمعها لما أستعطت أن تفك خريطة أسلاك المولدة التي تقطن أمام بيتنا. فقد نصبها صاحبها أمام بيتنا لتدر له مالا ً. ولما لا وهو لايسمع صوتها الذي لاتستطيع أن تسمع صوتك حين تقف بقربها. قلت لأبي لماذا تسمحون له بنصب مولدة بهذا الحجم، فقال أفضل من أكوام النفايات التي تسلقت جدران منازلنا بعيدا ً عن أعين أمانة بغداد. لاذوق هناك ولا أخلاق، الكل يبحث عن المال وراحته على حساب غيره. جيراننا يملك مولدة لمعمل كبير، فهي تهدر بصوت يجعلك تنهار أمامه. فعند الصباح وحين تنقط الكهرباء الوطنية التي تمر مرور الكرام، تحاصرك أصوات المولدات التي تزمجر وتهدر بصوتها الذي يجعلك متوترا ً بإستمرار. فلا تستطيع الدخول في البيت من شدة الحر، ولاتستطيع تجنب صوت المولدات وروائحها المسببة للسرطان. فعند المساء ترى في الأفق سحابة سوداء تغطي أسطح المنازل تخترق صدور الصغار وتزكم أنوف الكبار في موعد مع المرض والموت القريب. ياإلهي، لقد أدار جيراننا محرك مولدته الضخمة بينما أكتب هذه السطور، فأي وحش هذا!
المشهد السادس
لقد قُتل صاحب متجر الصرافة القريب من متجر أخي. لقد أستقرت خمس رصاصات في صدره ورصاصة في بطن صاحبه الذي لم يمت. لقد كانت نقطة الجيش للتفتيش لاتبعد إلا خمسون مترا ً عن مكان الحادث. فأي جرأة هذه؟ لقد لاحق أصحاب نقطة التفتيش المجرم وهو يطلق النار بشكل جنوني كأفلام هوليود. لقد أصاب صاحب سيارة كيا الذي فارق الحياة لاحقا ً وجرح أحد أفراد الجيش. وأخيرا ً أمسكو به بعد نفاذ إطلاقاته. بعد عدة أيام وفي كشف الدلالة، تبين أن القاتل لم يكن يبحث عن المال، بل كان قاتلا ً مأجورا ً! وكان صاحب الصرافة ضحيته العاشرة. فقد أودع رصاصته التي باعها برؤوس تسعة ضحايا. نعم، لقد إشترى أحدهم رصاصة وطلب منه إيداعها في صدر صاحب الصرافة، لقد كان القاتل منتسبا ً في سلك الشرطة ومن الحمايات لأحد المسؤولين، لايتجاوز عمره الواحد عشرون عاما ً، فأين تعلم القتل بهذه الطريقة! نعم، كنا نسمع قتلا ً بعنوان الطائفية، أو قتل شرف، أو قتل بعنوان الإنتقام. لكن ماهو جديد هو القتل بالأجرة، فهي مهنة جديدة في العراق عنوانها قاتل مأجور.
المشهد السابع
أغلب من التقيتهم من شباب مصابين بمرض السكر ضغط الدم، وآخرهم خالي المسكين الذي يعمل شرطيا ً في منطقة الكرادة. فبعد سماعه بحرق الجثث بعد قتلها كظاهرة جديدة وإسلوب جديد لدولة العراق الأسلامية أصابه الهلع وأصيب بالسكر. الشيء الجديد إن كل الناس هنا تموت بسهولة في ريعان الشباب، بلا مقدمات، ولا تحذير مسبق. فالموت أشبه بفلاح يحصد رؤوس الرجال حين موعد الحصاد.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات