مقدمات لمنهج إداري تفاعلي إبداعي جديد

للأمير خالد الفيصل فلسفة إدارية خاصة تظهر ملامحها واضحة على الواقع، وعلى امتداد ساحة الفعل الإداري التي يتحرك فيها، دون أن يفصح بشكل مباشر أو غير مباشر عن أسس أو حيثيات وتفاصيل هذه الفلسفة التي هي quot;رؤية إدارية خاصه بهquot;. إلا أن الراصد لمسيرة الأمير في تجربته العسيريه التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، ثم في بواكير تجربته بمنطقة مكة المكرمة الآن، يستطيع أن ينظم ما تناثر من قرارات وتحركات ومواقف وأفكار في منظومه متصلة الحلقات تشكل في مجموعها رؤية إدارية متكاملة في العمل العام، ونسقياً فكرياً يشكل فلسفةً واضحة المعالم.

في قلب الحدث

كثيراً ما فاجأ الأمير العاملين في إدارة من الإدارات التابعة لإدارته بزيارة تفقديه غير معلن عنها مسبقاً، لتجد الإدارة والعاملين في المرفق الأمير فجأةً بينهم دون سابق إنذار يتفقد المرفق وسير العمل فيه، واقفاً على التفاصيل متطلعاً عليها، ومستمعاً بصبرٍ وأناة إلى شرح ما سئل عنه، بتفهم، ثم يبدأ مناقشة التفاصيل مدلياً برأيه ومستمعاً لما عند الآخرين.
لا أظنك بعدها في حاجة لمن يحدثك عن التأثير النفسي والدعم المعنوي الذي يستشعره العاملون وتستشعره الإداره العليا لهذا الإهتمام المباشر من أمير المنطقه مع كل ما يمثله.
مع ما يستشعره إلى جانب ذلك هؤلاء العاملون وإدارتهم من ضرورة إعطاء عملهم إهتماماً أكبر، وإنجاز المشاريع الموكلة إليهم في وقتها وبالمواصفات الموضوعة لها، لإحساسهم الدائم بوجود المسئول الأعلى قربهم.
وثمة الكثير من المواقف الطريفة، والمواقف الحرجه التي تحدث في هذه الزيارات المفاجئة والتي يتداول حكاياتها العاملون في مختلف الإدارات الحكومية التابعة لأمارة منطقة مكة المكرمة.
إلا أنها ndash;هذه الزيارات المفاجئه والتواجد في موقع العمل والإطلاع على إنجاز المراحل- تعكس وعياً إدارياً، أو قل هي تطبيق لمبدأ إداري تكمن فيه عبقرية الإدارة الملهمه التي تعرف متى وأين تتواجد في المكان والزمان الملائمين.

الخاص حين يصبح عاماً

أحياناً يبدو هذا كما لو كان صرامةً إداريه في متابعة العاملين، إلا أن ما يؤكد أن هذه المتابعة والمراقبة اللصيقة إنما هي في جوهرها نوعٌ من الحب للعمل، ورغبةً نفسية عميقه في خدمة الناس وتوفير سبل الراحة لهم، أو هو بمعنى آخر عشق للناس يعبر عن نفسه بنكران الذات وإجهاد العقل والجسد في سبيل إسعادهم تفسير هذا تجده في مجلس الأمير الخاص مذ كان أميراً على منطقة عسير، حيث كان المجلس الخاص عبارة عن ندوة مفتوحة من ناحية، وورشة عمل من ناحية أخرى، تناقش فيها شتى الأمور والقضايا ما يتصل منها بالمنطقة وتطويرها، وما يتصل منها بالسياسة الدولية، وسياسات التنمية والتعليم والموارد البشرية بالدولة، أو ما يتصل منها بالشؤون الثقافية والإبداعية والإعلامية، أو ما يتصل بتاريخ الدولة، وعادات مجتمعاتها المتنوعة وثقافاتها التقليديه، ففي هذا المجلس الخاص يناقش كل ما هو عام، بمنتهى الوعي والشفافيه.
ولربما يخطر بذهنك سؤال: وما علاقة ذلك بالزيارات الميدانية المفاجئة، ومتابعة عمل الإدارات بشكل لصيق؟.
إنه مبدأ quot;الحوارquot; الذي يضئ وجهي الصورة، فما يحدث في مجلس الأمير الخاص، يجد وجهه الرسمي quot;العامquot; في ممارسة الأمير لمسؤولياته التي يتحرى فيها الرضا عند الله، ثم رضا من شرفه بالثقة وكلفة أن ينيب عنه في قضاء حوائج الناس وتسيير شؤونهم.

ضبط إيقاع المنطقة

كيف استطاع أن يحقق هذه المعادله وبهذا التوازن؟.
أنت تسأل نفسك عندما تطالع الإنجازات التي استطاع أن يحققها في بداية تسلمه مسؤولية أكثر مناطق المملكة تعقيداً، سواءً من حيث موقعها كنافذة بحرية وبرية وجوية تستقبل ملايين الحجاج والمعتمرين، وملايين الأطنان من البضائع التي تدخل أسواق المملكة تحملها السفن والطائرات من قارات الدنيا جميعاً، أو من حيث كثافتها السكانية المتنوعة بشكلٍ هائل.
بإختصار كون منطقة مكة المكرمة ومدنها الكبيرة على وجه الخصوص، مفتوحة على مدار الساعة في اليوم على مدار العام يجعل مسؤولية ضبط إيقاعها مسألة في منتهى الصعوبة، أما إذا حاولت أن تفكر في تطويرها وتغيير ملامحها فأنت إذاً تكلف نفسك ومن يعملون معك رهقا.
إلا أن القرارات التي إتخذها سموه لتنفيذ وتحقيق هذا الهدف والنتائج التي بدأت تظهر على الأرض، وبعض هذه القرارات كان صارماً في حسمه، وكما هو متوقع لابد أن تقابل قرارات مثل هذه بعدم الرضا من البعض، إلا المصلحة العامه تفرضها.
فمنطقة مثل جنوب جده التي ظلت عقدة منشار تطوير المدينه لعقود وعقود، بدأ بها الأمير خالد الفيصل برامجه التطويرية لأنها الحلقة الأصعب، وكذلك بعض مناطق العاصمة المقدسة لمكانتها الروحية والحضارية.
هذه قرارات كان لابد من إتخاذها إذا أردنا أن نفتح المنطقة على التطور، بغض النظر عن عدم رضا البعض ممن يضر بمصالحهم الشخصية والخاصة تغير الواقع.
بالطبع هذا منظور ضيق يغفل أن تطوير المنطقه بكاملها سيعود بالنفع على الجميع، وعلى رأسهم أصحاب العشوائيات المتهالكة وسكانها معاً.
فمن المستحيل أن تظل هذه العشوائيات صامدةً طويلاً.

توازن المعادلات الصعبة

إنه ndash;أي خالد الفيصل يكتب أولى فصول ملحمةٍ كبيرة. ولكنه مع ذلك يرفض أن يوصف ما أستطاع أن يحققه في عسير بأنه إعجاز أو إنجاز، كما يرفض أن يبالغ الناس في تقدير ما يفعله الآن في منطقة المكرمة.
فهو يؤمن بأنة إنما يؤدي واجباً أسنده ولاة الأمر إلية، وما كان ليرفض إطاعة الأمر، وطالما هو قَبِل هذا التكليف فإنه الواجب علية أن يقوم بواجبة على الوجه الأفضل.
هكذا الأمر ببساطة بالنسبة إلية.
وبما أن المقاييس قد اختلت رؤية مسئول يؤدي واجبه كما ينبغي، أصبح إعجازاً يجب أن يكرم عليه.
وهذا ما يرفضه الفيصل.. ولهذا لم تتوقف مسيرة إبداعاته الإدارية، فهي تتجدد دائماً، ما أن ينتهي من تحقيق رؤية تطويرية حتى يبدأ تحقيق رؤية أخرى بنفس الحماس والشغف وكأنه المشروع الأول.
لم يتباطأ إيقاعه الإبداعي الإداري قط.
ولسبب ما تجد كثير من الناس يتساءلون بدهشة كيف إستطاع أن يحقق هذه المعادلة ويحقق هذا التوازن ومن يسأل هذا السؤال يسأله وفي ذهنه أن الأمير إلى جانب مسؤولياته الكبيرة، وهموم المنطقة التي يحملها على كاهله، وهي ثقيلة، ويقوم بأعبائها على أحسن وجه، ومتابعاً عن قرب، لا يكف مع ذلك عن الإبداع الشعري والتشكيلي، وكأنه فنان متفرغ، ويتابع أعمال وخطط وبرامج مؤسسة الفكر العربي!

تكامل هرموني

ثمة عمل ذاتي يتدخل في معادلة هذا التوازن الأدائي يتمتع به الأمير، وهذا العامل هو الذي يجعل هذه الإنشغالات على إختلاف طبيعة كل واحده عن الأخرى، أو على رغم تنوعها، الذي يوحي بتناقضها، تعمل متناغمة، وكأن quot;الفنانquot; في الأمير يدعم quot;الإداريquot; فيه، حيث يفتح له آفاقاً إدارية مبتكرة، أو يبتدئ حلولاً لقضايا إدارية تبدو مستعصية، لا حل لها.
بينما يدعم الإداري فيه الفنان حين يلجم نزوع الفنان الطبيعي إلى الإنفلات من قيد الواقع ليحلق في سموات الخيال الإبداعي، فيلحم الإداري فيه تمرد الفنان على quot;القوالبquot; وينظم فوضاه، فيأتي فناً ملتزماً، وإبداعاً ملتصقاً بحياة الناس ونبضها الحي الواقعي، ومعبراً عن أحاسيس يخبرها ويستشعرها الناس على مختلف مستوياتهم الثقافية، لا إبداعاً نخبوياً محلقاً في الهواء لا علاقة بواقع الناس وحياتهم وهمومهم ومشاعرهم.
ونجد بالمقابل إداري يجده معاونوه وفريق العاملين تحت إدارته بينهم في كل لحظه ويستشعرون هذا الوجود الدائم. وإداري لا يعرف التوقف أمام مشكلة، إذ سرعان ما يتوفق ذهنه عن حلٍ إبداعي لها لم يفكر فيها أحد، إداري يعرف كيف يقود بسلاسة وينجز بجدارة وكفاءة وإتقان.
وهكذا حين تتكامل مواهب الإنسان وملكاته الفكرية والإبداعية والعملية، لتعمل متكاملة مثل فرقة سيمفونية في خدمة الحياة والناس بحب وشعور عميق بالمسئولية هكذا هو خالد الفيصل.


أكاديمي وكاتب سعودي
www.binsabaan.com