منذ أن أعاد ( أ.ب. تايلور ) تعريف الثقافة في كتابة ( الثقافة البدائية ) الذي صدر في القرن التاسع عشر، وقدم فيه تعريفاً أكثر رصانة للثقافة من حيث هى كل َُمركب يشمل المعرفة والعقيدة والفن والقانون والأخلاق والممارسات وأي إمكانات أو عادات يكتسبها الانسان كعضو في المجتمع، تمدد مفهوم الثقافة لنتقل بعدها المفهوم مع روث بندكيت في عام 1934م وكتابها ( أنماط الثقافة ) من التراثية العنصرية إلى الحقل الأنتربيولوجي.

جرثومة التغيير
هذا التحول والانتقال كان ولا بد وأن يترك أثره في دور ووظيفة المثقف فيما بعد بكل تأكيد، فاتسع هذا الدور ليأخذ بعداً سياسياً متعاظماً. و أخذت ملامح هذا الدور السياسي والاجتماعي تصبح أكثر فاعلية وتأثيراً مع انطون غرامش ومفهومه لـ quot; المثقف العضوي quot;.

صحيح أن الدور السياسي والاجتماعي للمثقف كان واضحاً وممارساً عبر التاريخ قبل غرامش، إلا أن الأخير سعى لوضع أسس برنامج اجتماعي لدور المثقف السياسي أكثر تحديداً.
فأصبح المثقف العضوي أشبه ما يكون بناقل جرثومة التغيير في المجتمع، وهو المبشر في القطاعات الاجتماعية بالثورة، خصوصاً بين الطبقات التي رشحها ماركس للقيام بمهمة التغيير الثوري.

والآن فإن على من يريد البحث في العلاقة بين المثقف والمفكر، وحدود التماس بينهما، ونقاط للتقاطع بين وظيفتهما ومجالاتها، لا بد أن ينقل هذا البحث إلى حقل العمل العام، وخاصة في مجال الاجتماع والسياسة، إذ في هذا المجال تتحدد طبيعة كلَ منهما منفرداً، وتتحدد بالتالي الفضاءات التي يعمل فيها وتتجلى في حدودها قدراته ومدى وجدوى فاعليتها. وذلك حتى لا يكون الكلام عنهما تنظيرياً معلقاً في الهواء أو أكاديمياً بارداً لا علاقة له بالواقع.

تداخل الوظائف
إتساع وتمدد مصطلح الثقافة فيما يبدو أحدث أو تسبب في تداخل بينه وبين المفكر في بعض المنعطفات التاريخية لأن الشخص ndash; مثلاً ndash; يستطيع الزعم بأن مفكر مثل جان جاك روسو لعب دور المثقف في التمهيد للثورة الفرنسية، كما يستطيع الزعم بأن سائر الكتاب التنويريون سواء المسرحيون أو غيرهم، وهم ممن يمكنك إطلاق صيغة المثقفين عليهم لعبوا دور المفكرين في التمهيد لهذا الحدث السياسي والاجتماعي والتاريخي بل والمفصلي.

وبنفس القدر لا يمكنك أن تصنف فيلوسفاً ومثقفاً وكاتبا ً روائياً ومسرحياً مثل سارتر في أي الخانتين بصورة قاطعة، وحتى غرامش نفسه الذي صاغ مفهوم المثقف العضوي لا نستطيع أن نؤكد بشكل قاطع إذا ما كان في إسهامه هذا مفكراً ام مثقفاً.
إذن ما الذي يمكن أن يشكل خطاً فاصلاً بينهما؟ الرؤية الفكرية للمفكر أقرب إلى الفضاء الاستراتيجي كلية وشاملة، ثم هى تتجه إلى quot; الغوص quot; في عمق ما تتناوله من قضايا، وتحاول ndash; رأسياً ndash; الإحاطة بمختلف جوانبه وزواياه.
ولهذا فهى غير معنية بمتابعة تفاصيل اتجاه حركة المجتمع، و إنما يعنيها من هذه الحركة مدى إتساقها مع الرؤية الكلية من ناحية، وقراءة ما بين سطور الحركة الاجتماعية على المستويين: السلوكي الفردي والمؤسساتي واستخلاص الاحتمالات والتوقعات، بطريقة إستقرائية، لمالات الحركة.

نقاط تقاطع ملتبسة
يمكنك أن تسمي هذا النمط من الرؤية بأنه إستراتيجي.
وهو عكس رؤية المثقف التي يلخصها سارتر قائلاً بأن الثقافة هي في الأساس quot; موقف quot;.
وموقف هذه التي وضعناها بين مزاوجتين يجب أن نتوقف عندها قليلاً، لأنها واحدة من نقاط التقاطع الملتبسة.
ولنأخذ أمثالاً حية على ذلك:
سارتر ولفيف من المثقفين الفرنسيين وقفوا إلى جانب الشعب الجزائري في حرب الاستقلال وأدانوا بلدهم فرنسا بقوة.
وبرتراند رسل الفيلسوف البريطاني قاد مظاهرة وعقد محاكمة القرن العشرين هو وجمع من كبار علماء وفلاسفة ومثقفي العصر للولايات المتحدة الأمريكية على عدوانها الهمجي على فيتنام.
في حين إتجه فلاسفة مدرسة فرانكفورت وعلى رأسهم هربلرت ماركيوز إلى النقد الجذري للحضارة الغربية، والبحث والتنقيب عن بذرة المرض في الكيان الحضاري لها، بينما إتجه البعض إلى نقد منظومة القيم فيه، وتنوعت بذلك أشكال ومستويات النقد الذي تناول بالحصر فكر وثقافة ونظم وسلوك الإنسان الغربي وحضارته.
وأنت هنا في حيرة إذا ما حاولت تقييم فاصلاً واضحاً وقاطعاً بين وظيفتي المفكر والمثقف.
وهذا اللبس فيما يبدو يتسبب فيه المفكر.


لأن المفكر هو مثقف وأكثر.
إنه يحتوي المثقف في صميم بنيته الفكرية ويتجاوزه.
بمعنى أن ثقافة المثقف ومواقف المثقف تشكل جزءً من صميم بنيه الفكر، ولكنها مستوعبة تماماً داخل هذه البنية.

الاختلاف بين رؤيتين
وما يفرق بينهما أن رؤية المفكر أكثر أصالة و أكثر جذرية وشمولاً.
هي أكثر أصالة لأنها تعبر عن رؤيته الخاصة، في حين أن رؤية المثقف مستمدة من غيره من المفكرين، ولهذا نجد أن المثقف أكثر قابلية للأدلجة وتبني أفكار معطاة، وجاهزة، وقاطعة.
ثم إن رؤية المفكر أكثر جذرية لأنها تتجاوز سطح الأفكار والظواهر متجهة إلى جذورها،لمعالجة الفكرة أو الظاهرة في أصولها غير المرئية.

ثم هي أكثر شمولاً تميل إلى ربط الجزئيات بعضها ببعض، ولا تتعامل معها كوحدات منفصلة، وهذه الرؤية الواسعة الشاملة تتيح لها رؤية الخيط غير المرئي الذي يصل بين الأشياء، التي تبدو للرؤية الضيقة منفصلة وغير متصلة.
ونعود عند هذه النقطة إلى مسألة الموقف، مستصحبين معنا، هذه المرة، الفارق في الرؤية بين المفكر والمثقف. حيث نجد إن موقف المثقف أقرب إلى الآنية والراهنية والمباشرة في تفاعله مع وقائع وأحداث حركة الواقع لأنه يتخذ مواقفه تحت تأثير اطلاعه وضغط واقعه الذاتي الخاص.

ولهذا نرى كثير من المثقفين يغيرون مواقفهم إلى النقيض بتأثير تغير احد العاملين، فإما بتأثير قراءات أخرى تركت تأثيرها في رؤيتهم، وإما بتغيير أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية الذاتية الخاصة.
وهذه علة أخرى تضاف على علة البنية الفكرية للمثقف مما يجعله أكثر إستجابة للتأثر في مواقفه، و أكثر حماساً وإلحاحاً في التبشير بآرائه، على عكس المفكر الذي لا يبدي الحماس والإلحاح لنشر فكره أو الترويج له وربما يعود شيء من ذلك على عدم اهتمامه بتفاصيل حركة الواقع اليومية، إلا بقدر ما يستخلص منها من مؤشرات يقرأ فيها اتجاه حركة المجتمع المستقبلية وموقعها في السياق العام لرؤيته الشاملة.

وبعد.
إن الحديث عن هذه الفوارق بين المفكر والمثقف ليس لها أي دلالات تفضيلية، فلكل منهما فضاءه الذي يتحرك فيه، ولكل منهما وظيفته في حياة المجتمعات ولا تغني أحداهما عن الأخرى، مثلهما في ذلك بقية الفاعلين في حياة المجتمعات مثل الفنانيين والحرفيين والعلماء والتكنوقراط. لا غني لحركة أي مجتمع عن أي واحد منهم.

أكاديمي وكاتب سعودي

bull;www،binsabaan.com