الفرق بين فكر المجتمع القبلي وفكر المجتمع المدني أن القبيلة تبني الجماعة على حساب الفرد الضعيف المهمش الذي لايعبر عن نفسه بحرية فتكون القبيلة المكونة من مجموعة أفراد غير أقوياء ضعيفة إلا أمام بعضها البعض أو ضد قبيلة أخرى تشابهها نفس الصفات. أما المجتمع المدني فيبني الفرد القوي المعبر عن نفسه والمالك لحريته وقراره ليكون ذلك الفرد القوي مع أشباهه جماعات قوية تتمثل في الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية وغيرها مما يسمى بنظام المؤسسات المدني.
ولو غيرت القبيلة فكرها واستثمرت قوتها الجماعية في بناء الفرد القوي الواثق من قدراته وخلقت نظاما ديمقراطيا داخل تكوينها القبلي بحيث يصبح الفرد مكونا أساسيا لبناء القبيلة القوية يختلف في راية ورؤيته عن المجموع دون أن يراد له الانصهار فقط داخل فكر القبيلة الذي يجعل من تكافل القبيلة الاجتماعي وتعاون أفرادها القبلي مجرد مناسبات للأكل وامتلاء البطون بلحوم الأغنام التي تراق دمائها بكثرة في أبشع تبذير للمال الذي لو استغل لبناء المدارس والمصحات ودعم المرضى والفقراء لتحول مجتمع القبيلة من مجتمع استهلاكي للغذاء والوقت الضائع إلى مجتمع منتج وصحي وقوي.
المجتمع الحضاري الذي جوهره الفكر المتمدين يقوده المفكرون والمتعلمون والناشطون في حقوق الإنسان ونظافة البيئة ومساعدة المرضى وكل ما يتعلق ببناء المجتمعات ورقيها وتطورها، أما مجتمع القبيلة فان مشكلته تكمن في انه لايزال يقوده الأميون وأنصاف المتعلمين وأعداء الرأي المتعدد في ظل غياب تام للمتعلم والمثقف وصاحب الرأي المستنير مما يجعل مجتمع القبيلة يخسر قوة جماعته وتكافلها فيما يضر بالقبيلة أكثر مما ينفعها ويجعلها دائما تعيش في الماضي ولا تسير في ركب الحضارة الذي لايتوقف.
القبيلة تتفاخر بخشونة أفرادها، لكنها تعجز أن تحقق بتلك الخشونة نصرا حضاريا وتتخاذل أن تنتزع حقا إنسانيا بسيطا، لأن الجهل المسيطر على عقول قادة القبيلة يجعلهم يقدسون الألم والقيد خوفا من رؤية أشعة الحرية التي يعتقدون أنها سوف تكشف جهلهم وضعفهم لتفقدهم ما يظنونه مجدا يملكونه كونهم لايزالون قادة على بعض قطعان من ينتمون إلى قبيلتهم التي تقدس الجماعة المتماسكة بهشاشة على حساب الفرد القوي. بينما ذلك التماسك القبلي لا يعدو سوى نسيج لعلاقات ضعيفة كانعكاس لخوف لدى كل فرد ضعيف وليس دليلا على قوة جماعية أو حزبية تمثل مجتمعا من أفراد أسوياء وأقوياء.
بإمكان القبيلة أن تكون قوة ضاربة ومجتمعا منتجا ومبدعا إذا اعتمدت على بناء الفرد القوي الذي يشارك في بناء القبيلة القوية وأعطت الفرصة للمتعلمين وأصحاب الفكر المستنير كي يقودوها وسط عالم يتغير ويتطور بسرعة مذهلة وان تصنع لها قوانين وأنظمة جديدة تتواكب مع روح العصر الذي تعيشه بحيث يكون الفرد حرا في طرح رأيه وليس تابعا لأبيه أو أخيه أو أسرته ويكون الانتخاب وسيلة لاختيار القائد القبلي كل فترة زمنية معينة بما يعود أفراد القبيلة على الاختيار بحرية وديمقراطية. حينها ستكون القبيلة قوة ايجابية تبني فردا ومجتمعا وحضارة ويكون لما تملكه من طاقات إبداعية ومالية انعكاسا ايجابيا لمصلحة الوطن الذي تنتمي إليه ولخلق التوازن الذي يمنع التفرد بالسلطة والتمادي في الفساد والاستهتار بالحقوق.
القبيلة قادرة أن تكون قوة مؤثرة وقائدة إن غيرت طريقة تفكيرها وأصبحت تبني كيانها على أساس حزبي له نظام ديمقراطي وانتخابي يمكنها من تحويل قوتها الجماعية المستهلكة وتكافلها الاجتماعي الذي يذهب ولا يستغل سوى في مناسبات الآكل إلى قوة اجتماعية وطنية حضارية كبيرة.
عندما يصبح للفرد وسط مجتمع القبيلة قيمته التي تبرز شخصيته بما يملكه من تميز وتفرد واختلاف في الفكر والرأي والعطاء حتى لايكون مجرد عدد في قطيع يقوده الأجهل، فان القبيلة سوف تكون رقما صعبا في معادلة التوازنات الاجتماعية. يمكن الاستفادة منها خاصة داخل الوطن الذي لايزال يتكون نسيجه من مجتمعات قبلية كل قبيلة تشكل وطنا بحالها وفكرا انعزاليا إذا لم يتم تطويره ليرتقي بالقبيلة من فكرها القبلي إلى فكرها المدني فسوف تكون القبيلة عبئا لا يستطيع الوطن تحمل دفع الثمن الذي يجب عليه دفعه عندما يكون التحول المدني أمرا حتميا تقف ضده رجعية الفكر القبلي الذي سيكون لاعلاقة له بحضارة المستقبل.
كم يؤلمني حين أرى العديد من الرجال الذين تعلموا في أفضل الجامعات المحلية والخارجية وعملوا في أصعب الأعمال وخاضوا تجارب الحياة العملية والعلمية والمعرفية وكل الجوانب الحياتية التي تصنع من الرجل ذاتا لها قيمتها وأهميتها في كل مجتمع منتج وقوي، عندما أشاهد أولئك الرجال بلا قيمة أو أهمية داخل مجتمعاتهم القبلية التي تفضل رأي الأمي على رأي المتعلم وتفرض حصارا ضد كل صاحب فكر مستنير أو تجربة فاعلة يمكن الاستفادة منها لخلق واقع جديد سواء كان الواقع قبليا أو مدنيا. ونحن نعرف انه على مر العصور لا ينهض بالمجتمعات ولايقودها سوى أصحاب الخبرات العلمية والعملية والمعرفية حسب مستوى المرحلة التي يعيشونها من علم وفكر ومعرفة.
وحدها المجتمعات المنقرضة والمتهالكة والضعيفة هي من تمنح الأميون والجهلة والكسالى فرصة أن يقودوها بدون فكر مستنير أو رؤية واضحة أو أهداف نبيلة.
لو انطلقت القبيلة بفكرها باتجاه المستقبل معتمدة على ارثها القيمي القبلي الأصيل كقيم الكرم والنخوة والشجاعة والشهامة والصدق والأمانة والفزعة والرفدة لأجل إنصاف مظلوم أو مكلوم وهي قيم حضارية تتبناها كل الحضارات والأديان والفلسفات الإنسانية حتى تتمازج تلك القيم بفكر الحضارة المدنية المعاصرة، مدركة المفهوم لكل بعد قيمي وأخلاقي حقيقي، كإدراك أن الكرم فضيلة بين رذيلتي الإسراف والبخل مثلما الشجاعة فضيلة بين رذيلتي التهور والجبن، وكإدراك أن القيم الحضارية المعاصرة هي ما تجعل من الإنسان رمزا مقدسا للحياة وللحرية،وكرامته هدفا يجب أن يصان، وحقوقه خطا أحمر يجب أن لا تنتهك بفعل قبلي أو مدني وان يخضع الجميع للنظام والقانون كبديل للأعراف القبلية التي لا تسود إلا في مجتمع لايزال يعيش خارج المعادلات الحضارية، وعندما تمتزج الأصالة الحقيقية وليست المصطنعة بالمعاصرة المدنية التي تعلي من شأن الإنسان المتعلم والمتمدين، فإن الإنسان العربي ذو الجذور القبلية سوف يتحول بلا شك من إنسان اتكالي إلى إنسان منتج وقوي يستطيع أن يفرض نفسه كرقم صعب له كرامته وحضارته دون أن يظل تابعا وخانعا ومستهلكا و مكملا في قطيع يسير خلف راع يقوده كيفما يشاء إلى التلف أو العلف!
المجتمعات العربية القبلية: أصبحت تعاني من انهيارات قيمية وأخلاقية بسبب تمسكها بعادات وتقاليد لم تعد تنسجم مع العصر الذي تعيشه في الوقت الذي أصبحت تتخلى عن القيم الأصيلة التي كانت تميز القبيلة. وإذا كنا ندرك أنه لايمكن لمجتمع ما أن يتحول إلى مجتمع مدني وهو لايزال مجتمعا قبليا، وندرك أن المجتمع القبلي لايعيش واقع الدولة ويتعارض تعارضا تاما مع مؤسسات المجتمع المدني، إلا أن الحل لتكوين مجتمع مدني يؤدي إلى خلق الدولة المدنية هو البدء بتهيئة مجتمع القبيلة ليكون متمدنا عبرالمواءمة بين فكر المجتمع القبلي وفكرالمجتمع المدني و توعية الأسرة وتطوير مفاهيمها نحو تربية أبناءها ونقد بعض العادات والتقاليد التي أصبحت قيودا تقف مانعا ضد تطور مجتمع القبيلة والانتقال به إلى واقع المجتمع المدني.
على المجتمع القبلي، أن يميز بين القيم القبلية التي لاتختلف عن أي قيم حضارية وبين العادات والتقاليد التي قد تفرضها مراحل معينة مرت على القبيلة، حتى لاتصبح تلك العادات والتقاليد مقدسة في نظر المجتمع القبلي وثوابت لايستطيع التفكير في تطويرها وهي تخنقه وتمنع تقدمه.
من الخطر على حاضر ومستقبل المجتمع: أن تستهلك قدرات وطاقات أفراد القبيلة المميزين والمتعلمين تحت سيطرة الأميين وأشباه المتعلمين، ويخسر المجتمع فرصة الانتقال إلى المجتمع المدني، ليظل اهتمام غالبية المجتمع بتوافه وخرافات وقيود على حساب تنمية وتطور المجتمع بوطنه وإنسانه!!
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات