منذ الحقبة الستالينية المرعبة خلال ثلاثينيات القرن الماضي وعمليات التطهير الكبرى لم يشهد أي حزب سياسي وعقائدي حاكم عمليات تصفية وتطهير و إعدام أكثر من حزب البعث العربي الإشتراكي بفرعيه العراقي البائد أو السوري الذي لم يتبق منه سوى إسمه وشعاراته!، فطيلة مرحلة تاريخية طويلة من عمر الحزب إمتدت منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي وحتى أوائل الألفية الثالثة حينما إجتاحت الدبابات الأميركية بغداد و أنهت حكم و نظام حزب البعث القومي في التاسع من نيسان / إبريل 2003 كان الحزب مسرحا دمويا مروعا للصراعات و الإنشقاقات و الخلافات كانت هي أبرز منجزاته الحقيقية الميدانية الملموسة!

و العجيب و الطريف أيضا بأن هذا الحزب القومي الوحدوي لم يستطع أبدا تحقيق و تنفيذ أي نوع من أنواع الوحدة أو حتى التكامل أو التقارب! بل كان وجوده و سياسة قياداته يصب دائما في خانة الإنقسام القومي و الشتات الدائم، فلم ينجح الحزب أبدا في تحقيق وحدة ذاته و لجم قياداته أبدا، بل كان البعث عنوانا للإنفصال القومي و العداء المطلق في مسيرة العلاقات العربية البينية لدرجة أن الحدود العراقية/ السورية ظلت مغلقة طيلة أكثر من عشرين عاما إنقطعت خلالها كل وسائل الإتصال و التواصل بين الشعبين العراقي و السوري و شهد البلدان البعثيان و اللذان يحكمهما نظام حزب واحد بشعارات متطابقة حملات إنتقام دموية مرعبة لجأ الطرفان خلالها لإستعمال القوى الدينية و الطائفية المتناقضة فكرا وسلوكا و آيديولوجية مع فكر البعث العلماني المعروف، فالعراقيون قدموا الدعم المفتوح و السخي لقوى المعارضة السورية و منهم ( الإخوان المسلمون) من أجل تنفيذ أفعال و أعمال عنف إنتقامية عسكرية في العمق السوري، بينما لجأ أهل المخابرات السورية للتعامل مع الأحزاب الطائفية العراقية كالدعوة و جماعة المجلس الأعلى وبقية ( الربع ) كما أن النظام البعثي السوري لم يجد أي نوع من الحرج في التعاون العسكري و الأمني و الإستخباري و المستمر حتى اليوم مع النظام الإيراني!

بل أن الخبراء العسكريين السوريين شاركوا في حلقات الحرب العراقية / الإيرانية رعم أن هدف النظام الإيراني المعلن و الواضح و الصريح كان إسقاط نظام البعث العراقي عن طريق إحتلال بغداد و غزو العراق أو تقطيع أوصاله ستراتيجيا عبر إحتلال الجنوب العراقي مثلا و الزحف منه لتنفيذ بقية الأهداف الإيرانية التي تستهدف إقامة نظام ديني طائفي في العراق وفقا لنظرية ولاية الفقيه وهو الهدف الذي لم يتحقق أبدا إلا عبر الإرادة الأميركية التي سهلت تحقيق ذلك الإحتمال من خلال آليات التوافق و التناغم بين الدورين الأمريكي و الإيراني في العراق! فالولايات المتحدة هي من فتح الطريق لوكلاء إيران في العراق بالهيمنة على مسارب السلطة!! و لا سبيل لإنكار تلك الحقائق التي تجسدت ميدانيا!

المهم إن الصراع البعثي حاليا قد وصل لمرحلة حاسمة من خلال صراع قيادة ( النكبة ) أي بقايا حزب السلطة بقيادة عزة الدوري و بقية الرفاق المنشقين في الحزب بقيادة الرفيق اللاجيء في دمشق محمد يونس الأحمد والذي يحاول جاهدا تشكيل قيادة بعثية جديدة في ظل أوضاع عراقية صعبة للغاية لم تنجح معها جميع الجهود الهادفة لتوحيد الحزب تحت الراية السورية وقد حمي وطيس المعركة البعثية الداخلية حاليا من خلال الإستعانة بشهادات و آراء القياديين البعثيين في السجون العراقية و الأمريكية و منهم من أعدم كعلي حسن المجيد أو طه الجزراوي مثلا اللذان بايعا قيادة عزة الدوري وكذلك الحال مع القيادي طارق عزيز الذي إعتبر قيادات الإنشقاق بمثابة ( عناصر تافهة كانت نواياها إنشقاقية منذ فترة طويلة )!

وحكاية الإنشقاق في حزب البعث هي واحدة من أهم مميزات ذلك الحزب الذي دمرته الإنشقاقات و أجهزت عليه كليا منذ 23 فبراير/ شباط 1966 حينما خلعت اللجنة العسكرية البعثية السورية القيادة القومية و التاريخية للحزب ممثلة بأمينه العام ومؤسسه ميشيل عفلق وطرده و أتباعه نهائيا وبروز الفرع اليساري السوري للحزب، فيما شق البعثيون طريقهم الخاص و تمكنوا عن طريق التفاهمات الدولية من الإمساك بالسلطة في العراق عام 1968 و إعادة ميشيل عفلق وقيادته القومية للحياة رغم شكوك وريبة العديد من البعثيين العراقيين الذين أعجبوا بالتجربة السورية و أعتبروها دليل عمل للتخلص من وصاية القيادة العفلقية الفاشلة التي أضرت بالحزب و أساءت للعلاقات بين البعثيين أنفسهم وشجعت بناء التكتلات وكانت تلك الأصوات البعثية العراقية تنتظر عقد المؤتمر القطري الثامن للحزب لتطرح رؤاها و تبعد عن طريق الإنتخابات الحزبية الوجوه المشبوهة وفي طليعتهم نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ورجل النظام القوي وقتذاك صدام حسين، وكان يقود ذلك التوجه القيادي البعثي المعروف عبد الخالق السامرائي ( أبو دحام ) الذي كان يقدس الشرعية الحزبية ولكن تكتل ( البكر/ صدام ) كان أكثر خفة في الحركة و التطويق و المناورة وتمكن في المحاولة الإنقلابية المنسوبة لمدير الأمن العام اللواء ناظم كزار في 30 حزيران/ يونيو 1973 من إعتقال و إعدام العديد من البعثيين المناوئين وفي طليعتهم محمد فاضل و ناظم كزار و إعتقال عبد الخالق السامرائي و توجيه تهمة الإنقلابية ضده رغم أنه ليس من النوع الذي يتناغم مع رجل قمعي و متوحش كناظم كزار وحيث تم تخفيف حكم الإعدام الصادر ضده نتيجة لضغوط الأحزاب العربية ولكن تم إعتقاله إنفراديا حتى جاءت فرصة إعدامه بعد إتهامه وهو في المعتقل المخابراتي المعزول بعد ستة أعوام بمشاركته في محاولة 1979 الإنقلابية المزعومة و التي إستطاع صدام حسين خلالها من السيطرة الكاملة على الحزب و السلطة و إعدام أكثر من أربعين قياديا، كما تم التخلص بطرق الإغتيال و الخبث من قيادات بعثية عريقة مثل عبد الكريم مصطفى نصرت و عبد الوهاب كريم و عبد الكريم الشيخلي و عزة مصطفى و فليح حسن الجاسم و في ظل صمت كامل من القيادة القومية بعد محاصرة ميشيل عفلق الذي أصبح دوره التمجيد بقيادة صدام حسين فقط أما منيف الرزاز صاحب ( التجربة المرة في دمشق ) فقد وضع تحت الإقامة الجبرية حتى مات كمدا، أما شبلي العيسمي فقد حوصر بالكامل لسنوات طويلة وظل التافهون و الممجدون لصدام من البعثيين العرب كقاسم سلام اليمني أو عبد المجيد الرافعي اللبناني أو أحمد الشوتري الجزائري هم من يمثل القيادة القومية!! و التي هي اليوم قيادة عاجزة بالكامل لا قيمة لها أبدا في توجيه أو تحجيم الصراعات البعثية العراقية التي سبب جزء كبير منها يعود لعوامل مالية أيضا، فالأموال العراقية المسروقة من البنك المركزي العراقي قبل إنهيار نظام صدام بساعات قليلة تم تهريبها من قبل القيادات البعثية لدول الجوار العربية وحيث تم في يوم 7 نيسان / إبريل 2003 أكثر من 5 مليارات دولار من البنك المركزي العراقي بموجب أمر من طه ياسين رمضان وتم التصرف بها لدعم المقاومة كما قيل!!

ولم تعرف أبدا أين تم تصريف تلكم الأموال ولا طريقة إدارتها وهو ما يعتبره البعثيون المعارضون مسألة ستراتيجية ينبغي حسمها وهي القضية الصعبة على الحل، وتظل فضائح البعثيين تزكم الأنوف رغم فضيحتهم التاريخية الكبرى في تدمير العراق و تكسيح الأمة العربية..؟

[email protected]