تكرار الرحمن الرحيم في سورة فاتحة الكتاب يأخذ الانعطاف المتجدد لتقرير ملامح المقدمة الكبرى بين الإبهام والتصريح الذي تظهر نتائجه في الخاتمة المبينة للحدود والأطر التي ترسم معالم الرحمة على ما يتم بيانه في الصغرى، وعلى هذا التقدير فإن الأولى تشمل جميع الخلق وصولاً إلى الرحمة الثابتة التي انتقل فيها الحق سبحانه إلى تلقين عباده بالحمد الذي لا يخرج عن سعة اختصاصه الظاهر في تكرار الرحمن الرحيم. ومن هنا كان استمرار هذا التلقين آخذاً بالترقي في درجات مختلفة بين الحمد لله رب العالمين وبين ملكه تعالى ليوم الدين، ولهذا كان بيان الموازنة الشاملة قد امتد إلى المنحى المفترض الذي يجعل العبد على يقين جامع بين الرحمة المفاضة من الطرق المعاشية إلى مالكية يوم الدين الواقع سلفاً في مخيلة الإنسان والذي يجعله على أمل ورجاء من جهة وخوف ورهبة من جهة أخرى. ومما مر يتبين أن قوله تعالى: (الرحمن الرحيم) في الآيتين الأولى والثالثة من فاتحة الكتاب قد أصبح كالأمان في الموقعين لا أن الثاني يشير إلى الرهبة المتفرقة في سياق السورة وهذا باب مفيد يحتاج إلى تأمل.

تفريق الكلمات وبيان معانيها:
المالك: لا نريد الخوض في قراءة ملك ومالك لأن هذا يخرجنا عن روح البحث، إلا أن الجامع الحقيقي يظهر في المقلوبات المبينة لمعنى المالكية الدالة على القوة باعتبار أن المصطلحين من سنخ واحد مشتق من الكلمة، ولهذا نجد أن القوة ظاهرة في معنى المَلك والمالك والمُلك وكذلك في الكلم الذي هو موضع الجرح واللكم الذي يعني الضرب، وهذه كلها مصادر للقوة وصولاً إلى الكامل الذي هو بطبيعة الحال أقوى من الناقص، وما يدل على وجود القوة في الكلمة يظهر جلياً في قوله تعالى: (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) النساء 171. من هنا نعلم أن المالك هو المتصرف في وجود الأشياء الجامع بين ملكيتها وبين القدرة عليها، وإذا كان اللفظ يتعلق في رب العزة فهنا لا بد من جعل المعنى يتفرع على المالكية الفعلية التي تتحكم بكل ما هو عائد إليه جل شأنه باعتبار أنه المالك لكل شيء على الحقيقة دون الملك الاعتباري سواء في يوم الدين أو في غيره من الأيام كما سيمر عليك.

اليوم: لليوم في القرآن الكريم عدة معاني يجمعها رابط الظرف وتبينها القرائن، وقد يطلق اليوم على القطعة من الزمن وكذلك يطلق على الحدث الجلل الذي لا يفارق صفحات التأريخ، كما في الوقائع والحروب التي لا تفقدها الذاكرة، وقد بين القرآن الكريم هذه الحقيقة في قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) يونس 102. وكذا قوله: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) آل عمران 140. وقد تنسب الوقائع المهمة إلى فاعلها كما في قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) إبراهيم 5.

الدين: سمي يوم القيامة بـ (يوم الدين) لتضمنه معنى الجزاء، كما في قوله تعالى: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) غافر 17. وكذا قوله: (هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق) يونس 30. وقد عظم الله تعالى شأن هذا اليوم بقوله: (إن الأبرار لفي نعيم***وإن الفجار لفي جحيم***يصلونها يوم الدين***وما هم عنها بغائبين***وما أدراك ما يوم الدين***ثم ما أدراك ما يوم الدين***يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله) الانفطار 13-19.

الكلمات مجتمعة:
قوله تعالى: مالك يوم الدين: هذا التعبير أقرب إلى الأذهان أما الحقيقة التي عند الله تعالى لا يمكن إدراكها أو تصويرها بالكلمات القاصرة حيث أن المالكية المطلقة لا يحدها زمان أو مكان ولذا كان التعبير بعدد الأيام التي يعرضها القرآن الكريم يختلف باختلاف الوقائع والمناسبات، كما في قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون) الحج 47. وكذا قوله: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) المعارج 4. ويظهر في الآيتين اختلاف عدد الأيام المتعلقة بالأحداث ومجرياتها تبعاً لنوعية الجزاء ومقدار العمل والتكليف الذي تتوسط الملائكة بفعله، وما يفسر هذا الاختلاف يمكن تأمله في قوله تعالى: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً) الكهف 25. وهذا الإبهام قد بينه تعالى بقوله: (قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحداً) الكهف 26.

من هنا نعلم أن مدى قدرة الإنسان على الإحاطة بـ (يوم الدين) تكون أقرب للنسبية قياساً إلى علم الله تعالى، وطريقة الحساب والمراحل التي تمر بها الخلائق وصولاً إلى التقسيم النهائي، وبناءً على ما تقدم يظهر فساد من قال إن الله تعالى قد خصص مالكيته ليوم الدين لأن في الدنيا يوجد من ينازعه في الملك كفرعون ونمروذ وغيرهما، أما في الآخرة فلا ينازعه أحد، وفساد هذا الوجه ظاهر في تقلب الأحوال الأرضية وعدم استقلالها وأنت خبير من أن الله تعالى هو الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويشهد لهذا قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) آل عمران 26. ومن مصاديق هذه الآية قوله تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك) البقرة 258. وكذا قوله: (كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم) يوسف 76. وهذا يدل على أن التأثير المباشر لا يمكن أن يستقل به الإنسان ما لم يخضع للقوانين والسنن الإلهية التي تتحكم في مصالح الناس نظراً للطاعة أو العصيان، وهذا ما بينه تعالى بقوله: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله... إلى قوله: ونحن أحق بالملك منه) البقرة 246-247. ثم بين تعالى العلة من اختيار الملك بقوله: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) البقرة 247. وما ورد في الآيتين يبين أن إيتاء الملك خاضع لأسباب وسنن لا يعلمها إلا الله تعالى والسياق خير شاهد على ذلك، وفي متابعة هذه القصة تظهر حقائق أخرى تشير إلى المعنى المكمل لهذه السنن، كما في قوله تعالى: (فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء) البقرة 251. وهذا النهج يبين أن الأنبياء لم يخرجوا عن هذه السنن، ومن هنا كان قتل جالوت نتيجة لإيتاء داود الملك والحكمة والعلم، وبهذا السياق يظهر أن الجهة منفكة بين قوله تعالى: (مالك يوم الدين) فاتحة الكتاب 4. وبين الملك الأرضي الذي يهبه الله تعالى لمن يشاء مع النظر إلى القوانين والسنن الإلهية التي أوجدها الحق سبحانه، والمتفرعة على صلاح الإنسان أو فساده.

* من كتابنا: القادم على غير مثال

[email protected]