يحکى في قديم الزمان و سالف العصر و الاوان، أن ملکا کان مغرما بغرائب الامور و عجيبها، وکان دوما يبحث عن طرق متباينة لکي ينال مبتغاه، وذات مرة، تفتقت ذهنه عن فکرة جديدة حيث أعلن بأنه سيدفع مبلغ کبير من المال لمن يقول أمامه کذبة استثنائية لايتقبلها العقل لکن في حالة عدم تقبل الملك للکذبة فإن حياة الراوي ستکون الثمن، وطبعا هل الکذابون او الحالمين بنيل الجائزة من کل صوب و حدب خصوصا وان الحياة في ذلك البلد کانت مصداقا لبيت الشعر القائل:(ألا من موت يباع فأشتريه فهذا العيش مما لاخير فيه، وألقى کل واحد منهم أمام الملك مافي جعبته من کذبة، لکن الملك لم يکن يقتنع بأي منها وظل يستمع للمزيد منها بدون جدوى، حتى جاء ذات يوم رجل رث الثياب قادم من المجاهيل وقد أضناه التعب و الجوع و طول السفر وطلب السماح له بإلقاء کذبته في حضرة الملك، ولم يسمحوا له بالدخول إلا بعد أن نشبت بينه و بين حراس باب القصر الملکي مشادة کلامية وصلت الى أسماع الملك الذي أمر بإدخاله و اوضحوا له بأن حياته ستکون الثمن لو لم يقتنع الملك بکذبته، غير أن الرجل بادر الملك باسلوب ماکر بأنه واثق من نفسه لأنها حکاية حقيقة جرت له، وهنا أثار إنتباه و فضول الملك الذي أمره بأن يروي حکايته فقال الرجل وهو يتصنع الالم و المرارة: الحکاية بدأت عندما غادرت ذات يوم مدينتي يوم إنهار و تلاشى حلم حياتي بعد أن تزوجت الفتاة التي أحبها من رجل آخر، نکاية من أهلها بي، فقررت أن أغادر المدينة وأهيم على وجهي أملا في أن أعود وقد تبدلت حالي الى أحسن حال واجعلهم يندمون على ماأقدموا عليه معي، و بقيت أجوب السهول و الصحاري و الوديان و الجبال و الممالك المختلفـة وصادفت من الوحوش و الکواسر الکثير الکثير والحمدلله فتکت بها قبل أن تفتك بي، وذات يوم وصلت الى غابة عرفت من عابري السبيل أن اسمها غابة الموت قالوا أن هناك ثمة أسد شرس فيها لم يتمکن منه أقوى و اشجع الفرسان حيث کان نصيب کل من يقارعه الالتهام، لکنني وانا على تلك الحالة من اليأس و القنوط، صممت على المضي قدما للقاء هذا الاسد المزعوم، وفعلا وجدت نفسي فجأة أمامه و هو يزأر بصورة تصم الاذان و تلقي الرعب في القلوب، وعلى الرغم من إحساسي بالخوف الشديد لکنني تمالکت نفسي و بادرته بالهجوم و تشابکنا معا وفي الوقت الذي أدماني بمخالبه و قطع جانب من کتفي بأنيابه، لکنني تمکنت من غرز خنجري في خاصرته لکن للأسف البالغ کان خنجري صغيرا ولم يٶدي غرضه المطلوب ولاسيما وانه قد ضاع بين وبره الکثيف فبقيت من دون سلاح ولاأعلم ماذا أفعل حيال الوضع الجديد، وظل الرجل يتحسر و هو يشهق بقوة فسأله الملك: حسنا أيها الرجل وماذا جرى بعد ذلك؟ فقال له الرجل: ياجلالة الملك هي ليست حزورة وان المسألة واضحة کالشمس! فتعجب الملك أکثر وقد تملکه الفضول لمعرفة بقية الحکاية عندما أمره بشکل قاطع بقوله: هيا أخبرنا ماذا جرى تحديدا؟ فقال الرجل ببرود: الحقيقة يا جلالة الملك وبعد أن لم يعد في يدي سلاح لأقتل به الاسد فقد سنحت له الفرصة المطلوبة و إلتهمني! وهنا صاح به الملك: ويحك أيها الرجل، کيف إلتهمك وانت حي ترزق أمامي! فأجابه الرجل بهدوء کامل: حي؟ وهل تسميني حيا و تعتبر حياتي حياتا؟

الرجل نال الجائزة طبعا لأن الکذبة کانت من القوة بحيث أقنعت الملك، لکن، هذا کان في قديم الزمان و سالف العصر و الاوان وحتى أذکر انني قد سمعت هذه الحکاية في أيام طفولتي في الستينيات من الالفية الماضية، فکيف حالنا مع هذا العصر، مع مختلف الدول و الممالك، مختلف الاحزاب و الساسة، ملوکا و رٶساءا، طبعا اليوم لايحتاج اي زعيم او ملك او رئيس ليجهد نفسه بإحضار أناس لکي يلقون أمامه کذبات کي يقوم بإنتقاء أکذبها، ذلك أن الکذب في هذا الزمن قد صار حرفة حساسة من إختصاص نخب حاکمة في بلدان شرقنا المتخم بسرطانات الحکم الابدية، الکذب المنمق و المزرکش و المغطى بکل أنواع الزخارف و المحشي بمختلف أصناف الطلاسم و الاحاجي، هو ذلك الکذب الذي يصدر من الاوساط الحاکمة لکن، لکل مقام منها مقال، فکذب المسٶول الصغير تکون کذبة عادية قد لاتنطلي على الناس، والمسٶول الاکبر منه تکون کذبته أقوى من ناحية الحبکة و قوة الاقناع، أما لو وصل الامر الى الوزير، فإن کذبته تکون ذات أبعاد ضبابية کثيفة جدا بحيث يصعب من خلالها الرٶيا، لکن، لو وصلنا الى الحاکم بأمر الله، أيا کان، فإن الکذبة هنا ستختلف شکلا و مضمونا، ستصبح کذبة من القوة بحيث أن من صاغها و من نسبت له، يصدقانها و يٶمنان بها کحقيقة لاجدال فيها، الکذب هنا سيصبح أمرا مختلفا، أنه السبيل و الطريقة المثلى لتسيير امور الرعية، وقطعا فإن علماء الزور من أولئك الذين توجد تحت عماماتهم ألف شيطان و شيطان، يقومون بتبرير کذبات اولياء نعمتهم فيسمونها دجلا و بهتانا کذبات بيضاء الغاية منها اصلاح أمور الرعية و إرشادهم لما فيه خيرهم و صلاحهم.

قالت العرب: أجمل الشعر أکذبه، والكذب هنا المبالغة في الوصف و الاطراء کما قال المتنبي ذات يوم:
أي مکان أرتق أي عظيم أتق
وکل ماخلق الله ومالم يخلق
محتقر في همتي کشعرة في مفرقي

المتنبي يعلم قبل غيره أنه يکذب في کلامه لأن فيه مبالغة لايصدقها العقل أبدا سيما عندما يأخذه الزهو و الاعتداد بنفسه الى حد الاطلاق وهو أمر يعلم أي متلق لهذا الشعر بأنه أبعد مايکون عن الحقيقة و الواقع، لکن، في بلداننا، أعظم الساسة و ادهاهم أکذبهم، وانجح السياسات و أمضاها تلك التي تستند على بلاطات من الکذب، وطبعا ليس الکذب حکر او حصري ببلدننا و حکامنا وانما هو مباح لکل عابر سبيل في أرض الله الواسعة، لکن، المشکلة أن الکذب في بلدان الکفر و الالحاد و الفسق و الفجور، له حدود و معالم معينة وليس بالامکان أبدا جعله على وجه الاطلاق، أما عندنا، فبإمکانك أن تقول أنه وکما يقول العراقيون:(جيب ليل و خذ عتابە)، أي له بداية من دون نهاية، أي کذب بلا حدود، کذب لايقف أمامه شئ، وهنا أود أن أذکر کلاما لزميل هو الان في دار الحق بهذا الخصوص عندما أکد لي بأن الکذب لو تجلى ککائن حي في الشرق لأصابه الذهول و خر على رکبتيه مذعنا أمام کذب هٶلاء الحکام الذين صاروا بحق هم الاولى بحرفة الکذب و صناعتها واعلن برائته من الکذب.