(1) لم أرَ كالفتنة تُهلِك، ولا تستثني أحداً، وأول من تُهلكه صاحبَها، ورأسَها، والماسكَ بزمامها، فما هي إلا أوقاتٌ حتى ترميه في كانونها فتحرقه بها بعد أنْ كان ينوي أنْ يُشعِلَها في غيره، أليس الوزير الزيات ذكرى لنا فبينا يُحرق بكانونه عدوه وإذا به يُحرق فيه؟ فالنار لا تميز حين تشتعل بين عدوٍ وصديق، ولا قوي ولا ضعيف، ومهما حاولت أنْ تركب موجتها للإمساك بها ترمي بك في وسطها، أو تحت قدميها، أو تتركك على قارعة الطريق فلا ترى طريقك الأول، وهذا كما يبدو سنُّة إلهية يعرفها من استقرأ التاريخ ونظر بعيني معتبرٍ فكم أثيرت الفِتن على الأنبياء والمُصلحين وذوي الشرف والمروءة ثم ما لبث الوضع أنْ انقلب على مثيري الفتنة فأهلكهم ما أرادوا به إهلاك غيرهم، ونكص بهم ما توهموه انتصاراً إلى حالةِ شكٍ في الهدف والرؤية، ثُمَّ عمَّت البلبلةُ الفكر والذهن عندما صدمهم واقعٌ مختلفٌ عما كان يقال لهم، ثُمَّ تحول في مرحلة أخرى إلى حالة عاصفة من الانهزامٍ النفسي والوجداني والأخلاقي فلم تستثنِ موقعاً إلا ودخلته، وإذا بأمم الفتنة تدخل في انهيارٍ كبير.

(2) في زمن الفتن، تستيقظ غرائز بغيضة، ويبدأ قاموس اللغة البذيء بالكلام، وتظهر مصالح مختفية تحت دروع من الانفعال العاطفي المتضخم، وينمو تضخم الشخصية، ويكثر الكلام عن القيم العليا، والتباكي على الدِّين والتاريخ والحق والصدق، ولا شيء من هذا بحقيقي بل هو غطاء لخفايا يدركها الصيرفي فمَنْ حصر الحق في أنْ لا يَرى إلا بعينيه ولا يَسمعُ إلا بإذنيه فهو في الحقيقة لم يرَ ولم يسمعْ أي شيء لأنَّ وراء المعسول من الكلام حقيقةٌ لا يفطنها إلا ذوو اللب والمتدبر.

(3) وفي زمن الفتنة تنعدم فريضة التَّدبر، ولا أقصد بها ما أقصد بالتفكر، إذ كل سادر في شأنه يتفكر فيه بحسب ما تهتدي إليه مصالحه ورغباته وطيشه وجنونه وأمانيه، والتَّفكر يكون في الشيء بتقليبه وتبطينه وتعريفه وتعريف شيء من شيء أو شيء بشيء، فهذه تختلف عن تلك، بل أقصد من التَّدبر ما قصده العربي البسيط عندما قال عن التَّدْبِيرُ والتَّدبُّرrlm;:rlm; النَّظَرُ في عاقِبةِ الأمرِ، وقال: من تَدَبْرِ الأمرَrlm;:rlm; رأى في عاقِبتهِ ما لم يرَ في صَدْرِهِ. (القاموس المحيط). فهذه الفريضة نكاد ننساها كثيراً، فلا نسمع إلا صوتاً نشازاً يذكرنا بأنَّ نتدبر، هذا إذا كنا نسمع مجرد صوتٍ واحدٍ، أما الواقع الذي نكابر ضده فهو أنَّ العقل التلقيني الذي ورثناه يرفض مقولة التدبر بل يخاف منها ويكرهها، ويحاربها سواء أكان بوعي أم بغيره حيث الجميع في سلَّة واحدة، فتوجهات الخطاب الوعظي والتخويفي يُحارِب موقف المتدبر خوفاً من نسف هدوئه ورضاه وقناعاته، وتبدل أولوياته.

(4) في زمن الفتنة يصغر الكبار ويسود الصغار، وننصت لتهريجاتهم، وآرائهم، وخطابهم، واستنتاجاتهم، ونتعامل معها على أنَّها هي الممثل عن الفكر الآخر المواجه لنا والذي ينطق باسمه واسمنا ولكننا لا نريد له أنْ يخرج كما يريده الصِّغار، وما أنْ يخرج من قمقمه حتى نسارع إلى رفضه وإنكاره، بل ونخاف من هذا الشذوذ خوفاً شديداً كأنَّه قادر كل القدرة على كشف الحقيقة المُخيفة التي أغلقنا عليها الأبواب داخل عقولنا، وكأنَّهم ليسوا هم الهامش والهشاشة و الشذوذ و الـ لا منطق والخرافة والتدجيل والتهريج الذي عرف وجوده في كل الثقافات والدِّيانات، ونقرأه ونسمعه ثم نضحك منه، ونقول لا يعنيني، كما نقرأ ونسمع غيره من فكر أصيل ونعجب له، ولكنْ يبدو أنَّنا نستبطن في داخلنا زمن الفتنة الذي يجعلنا في حالة فوبيا مخيفة كبيرة، من كل ما هو آخر ومختلف وشاذ وصغير، فنحن نمثل جزءاً من عصر الفتنة الذي يعتصرنا، وننساق إليها بيسر وسهولة، ويمكن في أيام قليلة وساعات أنْ يُشعل ناره فينا جميعاً وننقاد له انقياد الفراشات للنَّار في سواد الليل.

(5) لو كان هؤلاء الصغار ولا شك أنَّ كثيرين مثلهم يتواجدون بجانبنا تمسكوا بالمنطق العلمي الاستدلالي الذي يعتمد البرهان ولم يستسلموا لأهوائهم، ومنطقهم الضيق والصغير، ولم تلتبس عليهم الأهواء ويغلب عليهم الاسفاف والمنطق التهكمي والتحريضي، ولم يلجوا في تفاهات وبذاءات التوصيف المتساقط لقلنا هذا باباً يحق لهم ولوجه، ولما أخافونا بعد ذلك، بل ربما شكرناهم أنْ كشفونا لنا حقيقةً وأصلحوا خطأً، ولكنَّ الأمر كما يبدو تجاوز ذلك إلى الذهاب بالجميع إلى الذعر منهم، وكل البطولة أنْ ننالهم نقداً وتجريحاً خوفاً من خطابهم ومحاسبتنا بهم. أهكذا يفعل الذعر في زمن الفتنة.

( 6) في زمن الفتنة تتجرح كل أصول المعرفة، فقرآننا الكريم، والحديث الشريف، والأسماء والصفات الإلهية، والرموز الدينية التاريخية، والعقائد الكبرى، ومثلها صغرى العقائد، وتلك التصورات النظرية الفرعية التي شققناها من الأصول والفروع، كلها تصبح محلاً للتجاذب، وتحضير التُّهم، وقذف الآخر بالأسوأ منها، فهذا يطعن في قرآن هذا، وذاك يشكك في حديث ذاك، وهذه أمة وطائفة منحرفة في عقائدها، وذاك من أهل الضلال، وهذا ماكر، عدوٌ، يكيدنا فلابد من كيده. ألسنا نصبح (ملطشة) في زمن تُحترم فيه العقول ويُقدس العِلم، وتتهذب الأخلاق، وتتجمل الألفاظ.

(7) في زمن الفتنة تتحول الأمم إلى شعوب، والشعوب إلى مجتمعات، والمجتمعات إلى جماعات، والجماعات إلى جمعيات، والجمعيات إلى أفراد، والأفراد إلى أصنام، وهكذا يتجزأ كل كبير، ويُستصغر كلُ مُتجزئ، ويتلون الجميع باسم الأديان والمذاهب والفرق والتيارات والأحزاب والأسر والشلل. وليت شعري من فعل بنا هذا، ومن المستفيد، وكيف استسغنا هذا التجزؤ ووقعنا في أسره.

(8) في زمن الفتنة نَتَّهم الخطابَ وأدواتَه الإعلامية والثقافية اللتان فعلتا فعلتهما السحرية بنا حتى أوصلتنا لهذا التجزؤ، الفرصةٌ، والكنزٌ، لكل من يريد أنْ يستأسرنا فننقاد له بطوعية العاجز، فتستريح النفس لهذا العجز، ويرمي كل بعذره على الآخر، وما أسعد غيرنا بنا ونحن هكذا.

(9) في زمن الفتنة فتشنا عن سببٍ لمآسينا فوجدنا أحسنه ما سميناه بالطائفية، فأوغلنا في نقدها، ونحن نعيشها ونريدها، بل وصنعناها لمن نعتبره من أنفسنا ونصنفه على أنَّه عدوٌ لنا. يا الله! كيف اُخترِع لنا هذا الصندوق العجيب، فبات محبباً، وواقعاً، ومكاناً للتفكير فيه، ثم استخدمناه وعمَّمناه على كل جزء فبات التعريف هو الهوية أولاً وأخيراً. وبدون هذا التعريف تصبح ورقة بلا قيمة، مجردَ شبح كبقية أشباح العالم المهمش.

(10) في زمن الفتنة عندما نريد الخروج منها، ننتقدها، ونذهب إلى عكسها، فالوحدة، والاشتراك، والحوار، والتقارب، والعيش المشترك، والمساواة، هي أدوات نتكلم عنها، ولكننا نستخدمها استخدام المضطر، الذي يشرب المُر من الدَّواء كي لا يستفحل الدَّاء، ألم يكن الأجدر بنا أن ندخلها كلها في دستور عقولنا كأصول ضرورية فوق الزمن والمكان والحدث والطائفة والأزمة والرَّخاء. إذا فكرنا بهذه الطريقة فلا شك أنَّنا سنصبح من أعظم الأمم إنْ لم نكن أعظمها قاطبة. ألا يحق لنا أن نتفكر كثيراً، ونتدبر أكثر. هذا أمل نطلبه فهل نستطيع أنْ نحققه؟