قبل أشهر من استشهاده التقيت ldquo;كاملrdquo; في بيت أخيه ldquo;فيصلrdquo; في مدينة ldquo;رجموندrdquo; جنوب لندن حيث كنت عنده ضيفا لبضعة ايام، وتلك كانت ليلتي الاخيرة التي تعرفت عليه لاول مرة اقصد شخصيا لانني منذ سنوات كنت اتابع كتاباته في العديد من الصحف والمنشورات، وربما تكالمنا تليفونيا مرة او مرتين، ولكن تصوري عنه قبل لقائي به انه مثقفا وفيلسوفا صعب القراءة وتخيلته صعب الشخصية والحديث، فهو كتب حول كل المواضيع من الفلسفة والسياسة والاجتماع. وكنت أخشى ان لقائي به سيكون غير عادل، فقد كنت أعتبره مفكرا رفيع المستوى وصعب المحاججة وأن حوارا مع شخصية كهذه سيكون غير منصفا، على الاقل بالنسبة لي أنا الذي أبهرتني اطروحاته منذ سنوات رغم تعقيدها في بعض الاحيان.

كانت ليلة جميلة الذين غادروا الامسية، وشقيقه فيصل متعبا صعد غرفته لينام وبقينا أنا وهو لوحدنا أمام منضدة مليئة ببقايا طعام وزجاجات من نصف فارغة من الويسكي والنبيذ. كانت الساعة تشير الى الرابعة فجرا وكنت في حيرة من أمري فأخبرته انني سأغادر البيت خلال ساعتين الى مطار ldquo;هيثرووrdquo; كي أستقل طائرتي عائدا الى ldquo;برشلونةrdquo; في التاسعة صباحا وكنت أريد ان اودعه قبل أن يصعد الى غرفته لينام، ولكنه أصر على البقاء لصرف تلك الساعتين الباقية من الفجر لحين مغادرتي.

دخلنا في العديد من الحوارات التي لم اكن قد اعتدت عليها مع معظم أصدقائي وحين سكبت في كأسه قليلا من الويسكي وانا على وشك ان اصب لنفسي دفع كأسه لي معتذرا بأدب جم قائلا ان الكأس الوحيد الذي شربه طول تلك الامسية كان له كافيا.

في سحر ذاك الفجر وعلى ضفاف rdquo;التايمزrdquo; وبعد حديث طويل عن العراق والثقافة والفن اكتشفت فيه تواضعا لامثيل له حيث قارنته مع العديد من الشعراء والفنانين الذين التقيت بهم من الاصدقاء وغير الاصدقاء، وكان يستمع أكثر من التكلم، وكأنه يبحث عن شئ أو فكرة ما تساعده في عمله كمسؤل عن النشاط الثقافي طالما هو الان في حوار مع فنان عراقي مغترب منذ عقود، استمع لبعض طروحاتي وقلقي وأنا في حضرته صغيرا ووعدني انه رغم الامكانيات المحدودة جدا في دائرته سيأخذ بعين الاعتبار كل ما طرحت عليه من افكار.
بعد ذالك، كانت تلح علي فكرة سؤاله عن معنى عودته الى العراق رغم الاخطار وعدم الامان تاركا ترف اوربا وأمنها، في جوابه لم يلق علي اي درس في الوطنية على الاطلاق، قال أنه شيء شخصي هو نفسه لايعرف التعبير عنه، فيه امكانية القيام بشيء عملي من اجل الثقافة في العراق لذالك قلت كتاباته ليدخل في نشاط عملي، او حتى يدوي ووضع التنظير جانبا لفترة ما.

أتذكر مرة في حديث مع صديقي الفنان والمصمم ldquo;جودت حسيبrdquo;المقيم في اسبانيا قال لي ان ldquo;كامل ldquo;اتصل به من ldquo;بغدادrdquo; ليكلفه تصميما لواحدة من أصدارات وزارة الثقافة وضحك ldquo;جودتrdquo;حينما أخبره كامل انه يتصل به من أحد الازقة الموازية للوزارة جالسا على ldquo;تنكةrdquo; امام أحدهم نصب ldquo;كشكاrdquo; متجولا لبيع ldquo;التكةrdquo; والشاي، دليلا على شحة ميزانية الدائرة الثقافية التي كان مسؤلا عنها ldquo;كامل شياعrdquo; فقد كان في بحث دائم عن مساهمات الفنانين والمثقفين العراقيين أينما كانوا، كان يشعر ضرورة وأهمية مساهمتهم في دفع عملية التحول الديمقراطي.

نظريا هو كان على حق، ولكن الواقع العراقي لم يكن مؤهلا لعملية التحول السلمية، بسبب تقاسم السلطة الطائفي نتيجة الاحتلال، وبسبب الانظمة العربية بكل أشكالها التي كانت تضع ldquo;بنداrdquo; على كل تقدم يحصل او من الممكن عليه من قبل الشعب العراقي سياسيا كان او ثقافيا، فكل العثرات والمطبات التي نصبت في طريق تقدم العراق كانت وراءها انظمة عربية وغير عربية شعرت ان عراقا ديمقراطيا سوف لن يكون مريحا على الاطلاق.

كامل، كان يشعر بالامان هناك حينما تحدثنا عن الخطورة الامنية، وانا كنت على علم بانه لم يكن يهتم بالحماية الشخصية التي كان يتمتع بها موظفون أقل منه درجة. لانه هو نفسه رفض هذا الحق وكان يعتقد أن جهده لايمكن ان يستهدف من اي قوة سياسية أو طائفية لانه عمل ثقافي عام يهم كل العراقيين بكل أطيافهم الدينية والسياسية، فهو لم يكن خطيبا ولا محرضا وكان يرى نفسه ldquo;وهنا يتعثر في كلماتهrdquo; خارج دوامة العنف اليومي في ldquo;بغدادrdquo; وتوسلته الحذر رغم تلك القناعات.

في هذا اللقاء الاول والاخير أكتشفت ldquo;كامل شياعrdquo; شخصا وديعا متواضعا ولا يثقل في ثقافته الرفيعة على محاوريه، طارحا أفكاره الحرة ببساطة الحكيم.

وتأسفت ساعة مغادرتي بعد 3 ساعات من الحوار مع رجل عراقي نادر، طر الفجر الفضي على النهر وأخذت حقيبتي الصغيرة مغادرا. حضنته وطلبت منه الحذر وأنا ابتعد على العشب الندي باتجاه المحطة. درت ظهري لاراه مازال في باب البيت يراقب ابتعادي ملوحا بيده، وأنا قمت بالمثل. والان وبعد عامين على استشهاده ابكيه مرة اخرى.

برشلونة-اسبانيا