حين نخرج من أوهام الصور الى الحقائق، نستطيع أن ننظر في المرآة دون وَجَلٍ يختبئ في أقنعة تغلفنا، فنلامس جمال الإنسان. وبقلبٍ منفتح يتجاوز الحدود الزمنية ولا يرى في الرحيل عن العالم إلا انعتاقًا وعودًا تلقيت خبر وفاة مؤرخٍ نوعي وناقدٍ أسطوري.

وفي مرآة الذات أرى فكر محمد أركون تجربة انعكست بدفءٍ لطروحات حُمِّلت بأسئلة الأنْسَنة، واخترقت سياجًا طوّق العقول بصدأ الضرورات المؤدلجة، ونفض عن الضمير إرث تاريخ تكلّس في مجتمعات استسلمت ليقينيات عَلقت على اللاهوت عجزها، فطرق quot;اللامفكر فيهquot; خائضًا لُجَّة المحرمات الممكنة غير مكتفٍ بـquot;التنزيلات quot; او quot;الحقائقquot; رافضًا كلَّ سلطة ومعتذرًا عن اي سلطة.

رحلتي في فكر أركون رحلة استكشاف الوعي وجذور الألم الكامن في أعماق حاجتي الفكرية العتيقة للتواصل مع quot;الانسانquot;، ومشاركته خلاصة التأملات والرؤى، وفهم أعمق لحياة البشر عبر نقاشات تدق باب المحرم وتبتعد عن كراسات الوصايا والوصفات quot;الفكريةquot; المعلبة الغارقة في بحر الصور النمطية التي تسوقها quot; محافل السلع الفكرية quot; عبر لعبة الاقناع.

وفي غمرة المقالات وازدحامها عن انسانٍ تجاوز حدود الانتماء وهو أكبر من ان يوّصف أتوقف عند نقاطٍ تحضرني في مرآة الفكر بعد اسبوع من عودته الى البياض.
محمد أركون كما يحب ان يقدم نفسه كباحث ومؤرخ، يحاول دومًا أن يحلل ماهية القوة العاملة في إنتاج تاريخ المجتمعات والحضارات وهو بوصفه ذو ثقافة quot;عابرةquot; يمازج بين الثقافة الاسلامية والعربية التي نشأ فيها وبين الثقافة quot;الاوروبية quot; التي عايشها - كونه يميز بين اوروبا والغرب، فيطرح إشكالية توظيف هاتين الثقافتين والتيارين في عملية التفكير والتحليل لفهم التاريخ لاسيما الحروب المتواصلة لحضارات حوض المتوسط المتناحرة.

لقد سلط أركون على جانب مسكوت عنه و quot;اللامفكر فيه في الفكر الاسلامي quot; والذي يتمحور حول اعادة تأويل الفقه بل واعادة قراءة شاملة للعقيدة الاسلامية وربطها بالواقع المعاصر، فهو يرى أن الاسلام بذاته ليس مغلقًا في وجه العلمنة كما ان العلمة لا تستورد ولا تصدر، فالحضارة الاسلامية اختبرت تجارب العلمانية عبر مراحل متعددة وان ظلت بعيدة عن الدراسة والبحث حيث شهدت الحقبة الممتدة من ظهور الاسلام وحتى القرن الخامس حركة فكرية وثقافية خرجت عن السلطة الفقهية، فالمعتزلة بنزعتهم العقلانية ومن خلال مزجهم بين quot;التنزيل الالهيquot; و الفلسفة الاغريقية عالجوا الكثير من المسائل الفكرية شكلت نقلة نوعية نقدية في التأويل وقفزة فكرية، وقد تبلورت هذه الرؤية أدبيا عبر الجاحظ في القرن الثالث الهجري، وما مسألة خلق القرآن الا ترجمة لطرح جريء حول مسألة التمييز بين كلام الله والخطاب القرآني كون البشر هم الذين يترجمون الابعاد الثقافية ويأولون اللغة.

ويذهب أركون إلى طرح مسألة quot;المخيال الدينيquot; المشترك للأديان quot;السماوية quot; فيجد ان المسيحية واليهودية لاتعترف بالصحة الانطولوجية للاسلام ولا تمنحه المكانة اللاهوتية اللازمة، غير ان quot;الوحي quot; المنزل عبر التوراة والانجيل والقرآن قدم نظرة خطيّة عمودية ووضع المجتمعات في خط زمني حتمي مرتبط بالقرار quot; الالهي quot;.
وان كان اركون قد اهتم بالتجربة العلمانية عبر العصور الاسلامية الا انه يرى انها بدأت قبل المعتزلة، منذ بداية العصر الأموي حينما رُبِط بين حقّ الحاكم السياسي والديني فيما السلطة على حقيقتها quot; ليست إلا عملاً واقعياً لا علاقة له بأية شرعية غير شرعية القوةquot;

وفيما امتد المذهب quot;الاشعري quot; وانتشر فيما، ادى الانكفاء الى زيادة التشدد بحق كل من يقول باستقلالية التنزيل والوحي عن العقل في وقت كان يحاول فيه الفقهاء quot;التوفيق بين ماهو quot;تعبديquot; مرتبط بالوحي وبين ماهو quot;زمنيquot; مرتبط بالواقع مما يعرف quot;بأحكام النوازل quot;.

لقد عالج أركون بجدارة وتميز تلك الثنائية المزدوجة لعلاقة quot;الديني ب quot; السلطوي quot; فالسلطة سيطرت على الظاهرة الدينية كما ان الديني استغل السلطة، ومن هنا يطرح بإلحاح ضرورة النظر من زاوية أنثروبولوجية والاهتمام بعلوم الإنسان والمجتمع كون هذه العلوم تشكِّل المفاتيح التي يمكن لها أن تمهد السُّبُل لفتح سبل نيرة وأفق جديد.
ولعل من ابرز ما قدمه أركون هو محاولته الدائبة الى اختراق الحدود بين الأديان التي عمدت الانظمة quot;التيولوجيةquot; عبر النظرة العمودية quot;الاسطوريةquot; الى جعلها سياجًا مبرمًا وحدًّا قاسيًا حيث طرح المعالجة الانتربولوجية والقراءة التاريخية للاهوت المنبنية على النظرة الأفقية.

رحل محمد أركون وهو يرجو من قراءه ألا يُسقِطوا على كلامه ما في مخيالهم المشبع بالخطابات الإيديولوجية وهو الذي قال في مقابلة له عام 2002 : quot; أحترم الخطاب الديني، لأنني أعرف، كمؤرخ، أن التاريخ يفرض علينا أن نكافح من أجل التحرير السياسي. ولكن علينا، في الوقت نفسه، أن نخوض معارك من أجل الأنْسَنَة، وأن تكون هذه المعارك في مستوى أعلى من مستوى المعارك التي فَرَضَها علينا التاريخ ndash; على أهميتها ndash; وهي معارك مؤقتة ولا تدوم. ولا يمكن لنا أن نعيش دومًا تحت السيطرة. قد يأتي يوم نكافح فيه ونُعفى من الضرورات الإيديولوجية. إنه السبب الأول الذي يجعلنا نكافح ونخوض معارك من أجل الأنْسَنَة ndash; وهذه المعارك لا تنتهي. هذا ما أرجوهquot;.

http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com/