أجرت الحكومة التركية في 12 سبتمبر/ أيلول 2010، استفتاءً على تعديل بعض بنود الدستور التركي القائم حالياً، والذي وصفه السيد رجب أردوغان بـquot;دستور الانقلابيينquot;، باعتبار أن من شرعه في 1982، هم قادة الانقلاب العسكري الثالث 12/9/1982 بزعامة كنعان إفرين. ومعلوم أن الدستور الأول للجمهورية التركية قد تم وضعه عام 1924، عقب انهيار الدولة العثمانية، ثم تم تعديله في 1937، وغداة الانقلاب العسكري الأول عام 1960، بقيادة الجنرال جمال غورسل، تم وضع الدستور الثاني، ثم جاء الدستور الثالث في 1982، بعد الانقلاب العسكري الثاني في تركيا الحديثة. ودون الدخول في تطورات صياغة الدستور التركي، عبر ستة وثمانين عاماً، وما حمله من ملامح، واشتمل عليه من تناقضات، ولَّدت مشاكل جمة، تتعلق بديموقراطية الحياة السياسية، والاجتماعية النقابية، وتلبية الاحتياجات القومية المتباينة، لمفردات مواطني الدولة التركية، ندلف إلى صلب موضوع الاستفتاء على التعديل الدستوري التركي الأخير.

يتكون دستور 1982، من 177 مادة أساسيّة. وطبقاً للدستور، لا يمكن تغيير، أو تعديل المواد الثلاثة الأولى منه، ويُحظر اقتراح تغييرها، أو تعديلها. أما التعديلات المطروحة على الاستفتاء الأخير، فقد تناولت 26 مادّة، دفعة واحدة، وباقتراح منفرد من حزب العدالة والتنمية، الذي يسيطر على رئاسة الجمهورية، ويشكل الحكومة منفرداً، ويحظى بأغلبية نيابية في البرلمان. كما لم تلغَ أيّة مادّة من الدستور، في هذا التعديل. وتتركز التعديلات الدستوريّة على ثلاثة حزم أساسية، يمكن إيجازها على النحو التالي:
1)حزمة تعديلات متعلقة بالحقوق الديموقراطية السياسية، والاجتماعية للمواطنين، بهدف جذب تأييدهم للتعديلات الدستورية، حيث تتخذ التعديلات:

أzwnj;)تدابير جديدة تتعلق بتحسين أوضاع النساء، الأطفال، الشيوخ، شهداء ومعاقي الحرب، اليتامى، المشرّدين، المعاقين..، وزيادة الاهتمام بهم وتحسين أوضاعهم.
بzwnj;)حقّ المواطن بالمطالبة بالمحافظة على سريّة وإخفاء وحظر وحجب المعلومات المتعلّقة بحريّته الشخصيّة، منعاً للاستثمار المفتوح. حرية المواطنين بالسفر خارج البلاد، فلا يجوز منعها إلا بقرار من المحكمة، وأثناء فترة التحقيق، والاتهام، فحسب.
تzwnj;)إستحداث محكمة لحقوق الانسان، مرتبطة بالمحكمة الدستوريّة العليا، معنيّة بالنظر في قضايا حقوق الانسان، والتظلّمات التي يتقدّم بها المواطنون الأتراك أمام محكمة حقوق الانسان الأوروبيّة. فمن أصل 120 ألف دعوى، نظرتها محكمة حقوق الإنسان الأوروبيّة، يوجد 13 ألف دعوى، رفعها مواطنون أتراك، ضد الدولة التركية. ما يشكلّ حرجاً شديداً للحكومة التركية في المحافل الأوروبيّة.
ثzwnj;)فتح إمكانية انتساب العامل، أو المهني، في أكثر من نقابة.
جzwnj;)المساواة بين المتقاعدين عن العمل، والمرؤوسين، مع رؤساء الوظائف الحكومية.
حzwnj;)عدم جواز اتهام المشتغلين في الرأي، والشأن العام، إلا تحت سقف المحاكم، وبقرار منها.
خzwnj;)إطلاق حرية العمال والمهنيين في التعبير والاحتجاج بالإضراب والتظاهر والاعتصام ضد الحكومة، وقراراتها التي تمس أعمالهم، وأجورهم، ومستوياتهم المعيشية، وشروط عملهم، وذلك بموجب تعديل المادة رقم 54.

2)حزمة تعديلات متعلقة بتقليص سلطة الجيش، وهيئة الأركان، والمحاكم العسكرية، والقوى القومية التركية المتشددة، على الحياة السياسية، والمدنية الاجتماعية، لصالح تمكين السلطة السياسية المدنية، والمؤسسات المدنية للدولة، والتي تصب بالضرورة، حالياً، في صالح حزب العداالة والتنمية:
أzwnj;)تعديل يتعلق بالمادة 125 من الدستور، والتي مكنت الجيش، وبمعاونة مجلس الشورى العسكري، منذ انقلاب 1960، وحتى الآن، من فصل أكثر من 230 جنرال، وآلاف الضبّاط، والعناصر من الجيش (وكانت أغلب حالات الطرد بسبب ميول تلك العناصر الإسلاميّة السياسية)، وفقاً لقرارات هذه الهيئة. حيث تضمنت التعديلات الجديدة، على المادّة 125، إمكانيّة طعن العسكري المتظلّم، من قرار مجلس الشورى العسكري، أمام القضاء المدني.
بzwnj;)عدم جواز مقاضاة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، في غير زمن الحرب.
تzwnj;)حصر مهام المحاكم العسكريّة، بالنظر في العمليّات العسكريّة، والعسكريين، فحسب، بموجب تعديل المادّة 145. وتكون مقاضاة المتهمين بتهديد وحدة البلاد، واستهداف الدستور التركي، أمام المحاكم المدنيّة. وعليه، ستحال محاكمة شبكة أرغاناكون، ليتم نظرها، أمام المحاكم المدنيّة.
ثzwnj;)فضلاً عن تعديلات تخصّ أصول المحاكمات العسكريّة، أيضاً، في مسعى لزيادة الشفافيّة، والحريّة، والاستقلاليّة، والنزاهة، وتقليص سلطة العسكريين، على الحياة السياسية، والمدنية.
جzwnj;)زيادة عدد قضاة هيئة المحكمة الدستورية العليا في تركيا من 11 قاضياً، إلى 17 قاضياً. يعيّن رئيس الجمهوريّة 14 منهم، ويعين البرلمان الثلاثة الباقيين.
حzwnj;)تحديد عضوية المحكمة الدستورية العليا بحد أقصى 12 عاماً، بغض النظر عن السن، باستثناء الهيئة الحاليّة، حيث ستستكمل عملها لحين بلوغ أعضاءها سن 65. حيث كان قضاة هذه المحكمة، ورغم تحديد إحالتهم على التقاعد في سنّ 65، إلاّ أنه كان يتم التمديد لهم لممارسة عملهم.
خzwnj;)تعديلات تتعلق بالهيئة العليا للقضاء، حيث كان وزير العدل، ونوّابه، ضمن سبعة أعضاء أصلاء، بالاضافة الى خمسة مؤقتّين، يشكّلون تلك الهيئة. وبموجب التعديل، يصل عدد أعضاء الهيئة إلى 32 عضواً، 22 أصلاء، و10 نوّاب، يحقّ لرئيس الجمهوريّة تعيين أربعة منهم، وستزداد صلاحيات وزير العدل في التأثير على دور، وفعّالية الهيئة العليا للقضاء. ما يعني زيادة تأثير الحكومة.
دzwnj;)كما أجريت بعض التعديلات على المواد 144 و159 فيما يخص تأطير دور وزير العدل، في حالات التحقيق، والتفتيش، التي تطال موظفي الوزارة، والمحاكم، والسجون.
ذzwnj;)تعديل المادّة 15، ليتاح محاكمة الانقلابيين على الرأي العامّ. وبما يعني إمكانيّة محاكمة قادة انقلاب 12 سبتمبر/ أيلول سنة 1980.

3)حزمة تعديلات متعلقة بزيادة نفوذ رجال الأعمال، والمستثمرين، وأصحاب رؤوس الأموال، والطبقات الحاكمة، من خارج السلك العسكري، والبيروقراطي لأجهزة الدولة، فتمنح دوراً أكثر فاعليّة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، بما يعني أن غرف التجارة، والصناعة، والحرف، والمهن، والنقابات...، ستكون شريكة لأيّة حكومة، في حماية الدستور، والرقابة، والحياة العامّة. ويصبح هذا المجلس ذاته تحت الحماية الدستوريّة، أيضاً، لكونه سيصبح أحد مصادر الاستقرار للدستور.

وعليه، فلم تمس التعديلات الدستورية، التي تم الاستفتاء بشأنها، أياً من الملامح المرفوضة من جانب قوى المعارضة الديموقراطية التركية، فلم تمس النص الدستوري الذي ينص على أن (كل مواطن في الدولة التركية، تركي)، ولم تلغِ التعديلات ما أقره الدستور الثالث حول مفهوم القومية التركية، كما لم تعترف بالتنوع العرقي، أو الديني، في البلاد. حيث تنص المادة الثالثة من المبادئ العامة للدستور على أن: (الدولة التركية، بأرضها، وأمتها، كيان غير قابل للقسمة، لغتها التركية)، في إشارة إلى نفي ماعدا quot;اللغة التركيةquot; من لغات وطنية. كما لم تمس التعديلات تعريف الدستور لمفهوم المواطنة، فلم تُنهِ الالتباس الحادث فيه: حيث عرفت المادة 66، المواطن، بـأنه: (كل شخص يرتبط بالدولة التركية، برابطة المواطنة، هو تركي)، بما يعني اقتصار حق المواطنة على المواطنين من ذوي الانتماء للقومية التركية، دون غيرها من قوميات، ينتمي لها مواطنو الدولة التركية.
أي أن التعديلات الدستورية الأخيرة، قد تجاهلت مجمل المطالب الكردية، والتي تلبي في الوقت نفسه، مطالب كافة الأقليات القومية في تركيا، ما يطرح تساؤلات واسعة حول الأغراض الحقيقية التي ينشدها quot;العدالة والتنميةquot; من وراء تلك التعديلات.

كانت نتيجة الاستفتاء لصالح التعديلات الدستورية بنسبة 58% من المقترعين، ورفض 48% منهم، بما يبلور توازن القوى بين طرفي الصراع على الجانب التركي، حزب العدالة والتنمية من جانب، والقوى القومية المتشددة من جانب آخر quot;سياسياً: حزب الشعب الجمهوري، وحزب الحركة القومية، وعسكرياً: هيئة أركان الجيش، وبيروقراطياً: سلك القضاء، وغالبية هيئة التدريس بالجامعات، وقطاع واسع من العاملين في الساحة الإعلاميةquot;، فيما قاطع أغلبية مواطني الدولة التركية الأكراد، في الولايات الكردية الثلاثين، والذين يقارب عددهم الخمسة وعشرين مليوناً، من بين إحدى وثمانين ولاية، يقطنها اثنين وسبعين مليوناً ونصف المليون، هم تعداد سكان تركيا، حيث سجلت المقاطعة نسباً تتراوح بين 98% في ولاية غفر، و95% في ولاية جولميرك، و65% في ولاية آمد (ديار بكر) رغم ما أسمته الدوائر الكردية بـquot;الضغوط وعمليات الغش والتزوير في تلك الولاية التي تمثل عاصمة الأكرادquot;، و27.2% في ولاية ديلوك، و23% في ولاية جوليك، و22.84% في ولاية أردخان، و19.4% في ولاية أرزروم (أرض روم)، وهو ما اعتبرته دوائر حركة quot;منظومة المجتمع الكردستانيquot; انتصاراً سياسياً لها، باستجابة الغالبية الساحقة من الأكراد، لدعوتها لهم بمقاطعة التصويت، نظراً لعدم تلبية التعديلات الدستورية للحد الأدنى من المطالب السياسية للحركة الكردية المذكورة، والتي تتراوح بين الاعتراف بالحقوق القومية للأكراد، وإقرار الإدارة الذاتية الموسعة لهم داخل الحدود السياسية للدولة التركية، على غرار ما هو متحقق لمواطني مقاطعة كاتالونيا، في إسبانيا quot;تحديداًquot; وفقاً لما أعلنه السيد quot;مراد قره يلانquot; قائد المنظومة، فضلاً عن مطالبتهم بإلغاء، أو تخفيض، حاجز العشرة بالمئة، من قانون الانتخابات في تركيا، فضلاً عن عددٍ آخر من المطالب السياسية والاجتماعية.

ويتوجب الإشارة هنا، إلى أن الاستفتاء جرى على 26 بنداً في الدستور، فكان على المواطنين إما الموافقة على حزمة بنود التعديل بجملتها، وبكل ما فيها، ومن ثم الإقرار بمشروعية الدستور في حالته بعد التعديل، وإما رفضها بجملتها، وبما يعني ضمناً التمسك بدستور الانقلاب العسكري 1982، وتحديث المشروعية الجماهيرية له، فلا يوجد خيار أمام مواطن الدولة التركية، بالموافقة على بعض التعديلات، ورفض غيرها مثلاً، وفي الحالتين يكون الدستور، سواء المعدل، أو السابق على التعديل، وبما فيه من نواقص، ومثالب، كانت تقتضي التعديل، من وجهة نظر بعض الفرقاء، قد تم إقراره جماهيرياً، وبما يصادر الكثير من الحقوق، التي ترى استحقاقها، قطاعات واسعة من المواطنين، الذين لم يشاركوا، فعلياً، عبر quot;جمعية وطنية جامعة، أو جمعية تأسيسيةquot; مثلاً، يمثل فيها كافة أطياف المجتمع التركي، في صياغة مشروع التعديل الدستوري.

وفي ضوء تأكيد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إعتزامه إجراء تعديلات جذرية شاملة، على الدستور التركي، عقب الإنتخابات التشريعية العامة، المقرر إجراؤها في يوليو/ تموز 2011، حيث صرح السيد أردوغان في 18/8/2010: quot;هذا التعديل هو بمثابة خطوات أولية، تمهيداً لتعديلات جذرية شاملة خلال العام المقبلquot;، ثم أعاد السيد أردوغان التأكيد على مضمون ذلك التصريح، عقب ظهور نتائج الاستفتاء الأخير، يمكن تلمس رسالة مضمرة، وموجهة من quot;العدالة والتنميةquot; إلى الاتحاد الأوروبي، فبعد جولة طويلة من الانفتاح شرقاً، وممارسة الضغوط الكلامية على إسرائيل، ودون ترجمتها بممارسة ضغوط إجرائية سياسية أو اقتصادية عملية عليها، للضغط على الاتحاد الأوروبي، لقبول عضوية تركيا فيه، والتي تعمل الحكومات التركية المتعاقبة على الحصول عليها، عبر عشرات السنوات، دون جدوى، تلقي الحكومة التركية، بهذا التعديل الدستوري، مع تكرار الإعلان عن نوايا حزب العدالة والتنمية بإحداث تغييرات أكثر جذرية للدستور، مستقبلاً، وعقب انتخابات البرلمانية في 2011، أمام الاتحاد الأوروبي، لتعزز تقاربها معه، وفقاً للشروط التي وضعها الأخير، للفوز بعضويته، كما يغذي السيد أردوغان تطلعات الناخب التركي، منذ الآن، بمزيد من الحقوق الديموقراطية، وتقليص سلطات الجيش، وتسلط القوى القومية التركية المتشددة على أجهزة الدولة، ولتحسين فرصة حزب العدالة والتنمية في الحصول على عائدات أعلى من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية التالية.

كاتب ومحلل سياسي مصري