تمر في صمت ولكن في وجع تاريخي و ستراتيجي و نفسي كبير الذكرى الثلاثون لإشتعال أعتف نزاع إقليمي في العالم منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، إنها ذكرى إندلاع الحرب العراقية / الإيرانية في 22 أيلول/ سبتمبر 1980 و التي دخلت التاريخ بوصفها الحرب الأقليمية الأشرس و الأطول و الأكثر تكلفة ماديا و بشريا على المستوى الكوني بالنسبة للدول النامية، ففي تلك الحرب التي إندلعت بعد سلسلة من الترتيبات و المتغيرات و التفاهمات الدولية و الإقليمية و الداخلية تكمن أسرار رهيبة لم تزل طي الكتمان؟ وفي تلك الحرب التي تحولت لحرب إستنزاف منسية مكلفة لحوالي ثمانية أعوام عجاف تم رسم الصورة المستقبلية التمزيقية لمستقبل دول الإقليم، في تلك الحرب رفعت جميع الملفات و أستحضلات كل أدوات التاريخ و أساطيره، وتحققت للأسف كل العوامل الموضوعية التي أدت لتكسيح العالم العربي و تمزيق العالم الإسلامي وزرع البذور المؤسسة للحروب الرهيبة اللاحقة التي تهاطلت على رؤوس شعوب الشرق القديم.

في تلك الحرب التي إندلعت و لا زلت أتذكر إنطلاقة الطائرات العراقية ظهيرة يوم السبت 22 أيلول/ سبتمبر / 1980 وهي تدك أهدافها المنتخبة في العمق الإيراني تحت شعار تاريخي ديني أريد به محاكاة مرحلة الفتوحات الإسلامية الأولى في صدر الإسلام هو شعار ( يا سعد يا جدنا.. يا الرايتك من عدنا ) كما تقول كلمات أنشودة الحرب الشهيرة!، ثم الرد المدفعي الإيراني الهائل على مدن الجنوب العراقي و ما تبع ذلك من توغل عسكري عراقي في العمق الإيراني كان يهدف رسميا كما قيل لإلغاء إتفاق الجزائر الحدودي لعام 1975 و الذي تنازل العراق البعثي فيه عن حقوق العراق التاريخية في نهر شط العرب ثمنا لتفاهمات مع نظام الشاه الإيراني الراحل للقضاء على الحركة الكردية المسلحة في شمال العراق! وهو ما تحقق مؤقتا و لكن بثمن رهيب في غلائه و نتائجه المأساوية، لقد كان واضحا لمن يفهم في أمور الحرب و الستراتيجية منذ اللحظات ألأولى لإندلاع تلك الحرب بأنها لن تكون ( حرب نزهة )! و لن تتكرر معها صورة الحرب الخاطفة التي قامت بها إسرائيل ضد العالم العربي في 5 حزيران/ يونيو 1967!! فيما عرف وقتها بحرب الأيام الستة، بل أنها كانت حرب التوريط الكبرى و تصفية الحسابات الإقليمية المؤجلة بالجملة و المفرق! و بأنها الحرب التي ستمرر تحت راياتها و شعاراتها و جثثها المتراكمة ملفات و أشياء عديدة أهمها أنها ستطرح الرؤيا الطائفية التمزيقية في حلة جديدة! كما أنها ستكون المدخل الفعلي لتطبيق المخطط الكيسبنجري في العالم العربي و الذي ينص على منع نشوب حرب جديدة ضد إسرائيل مهما كان الثمن فحرب أكتوبر لعام 1973 كان ينبغي أن تكون آخر الحروب الكبرى من خلال تفعيل الملفات الإقليمية الإلهائية الأخرى التي يزدحم فيها الإقليم، فكانت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 التي أدت لإحتلال النظام السوري للبنان و لإحتلال إسرائيلي آخر لجنوبه و لقيام فتنة وحروب طائفية كانت إرهاصاتها قد بدأت منذ وقت طويل و تحديدا منذ عام 1958 الذي شهد حربا أهلية مصغرة، أما في العراق وحيث الخزين التاريخي و الستراتيجي لكل المصائب العربية فقد كان يعيش وضعا هشا قلقا مع حالة الضعف السياسي العام و الصراعات الرهيبة التي كانت تدور بين أجنحة حزب البعث الحاكم و التخبط الإيديولوجي القائم هناك مما سمح لبروز تيار عنيف إقصائي داخل القيادة البعثية العراقية بشعارات فاشية واضحة تجاوزها الزمن محورها ( قائد واحد لبلد واحد )!

فبرزت قيادة صدام حسين و مجموعته الذي إستطاع طوي الحزب تحت مظلته و صرع كل رفاقه المناوئين له و أدخل العراق في حمام تصفية دموي رهيب كانت نتيجته الإنفراد القيادي في حكم واحد من أخطر بلدان الشرق الأوسط بتاريخه و ثرواته و تناقضاته الداخلية الموجعة، من جانب آخر كان نظام الشاه الإيراني يواجه تمردا دينيا و شعبيا عارما تم توجيه دفته من خلال صراع ( البازار ) الإيراني القوي الذي دعم الحركة الدينية و بأدوات الحركة الشعبية الثورية التي تمكنت في النهاية بعد عقود طويلة من العمل من إنهاء نظام الشاه الإيراني الذي كان يعيش حالة هائلة من الأزدواجية المقرونة بجنون العظمة الواهية التي تتصنع القوة رغم أنه في أصعب و أحرج حالات الضعف، و إعتبارا من نهاية عام 1977 كان نظام الشاه الإيراني الأسطوري يخط طريق النهاية بعد تهدم أسسه و إنفضاض تحالفاته الدولية التي إستوجبت إخراجه من بوابة التاريخ للمنفى النهائي و من ثم التلاشي التام ليتحول لذكرى و مأساة لطموح إقليمي كبير لم تكتمل قصته، ودخلت إيران بكل ثقلها الحضاري و التاريخي و الأسطوري و الإقتصادي في مرحلة جديدة إختلطت فيها الرؤى الثورية بالأحلام الأسطورية بحالة المراهقة السياسية التي إستحوذت على شخصية وشعارات الطبقة الحاكمة الجديدة من المعممين فلأول مرة منذ العصر الصفوي يتاح لعمامة أن تتحكم بعرش الطاووس الإيراني و أن تحاول تطبيق أجندتها و ( مظلوميتها ) التاريخية المتوارثة أسطوريا، فكان الصدام الكبير المخطط له بإتقان بين القوة العراقية بإطارها القومي المعلن و بين القوة الإيرانية بإطارها الديني و المذهبي المعلوم، وظهر مصطلح ( تصدير الثورة ) ليكون الرمز الكودي الجديد لمرحلة جديدة و ساخنة من الصراعات الإقليمية التي تدعم النظرية الكيسينجرية التفتيتية السابقة الذكر، فبرز التناقض الحاد بين شعارات الثورة الإيرانية وممارساتها و بدأ نسج خيوط السيناريو الدموي الرهيب الذي كانت أدواته الجانبية متوفرة قتم إعداد المسرح و الديكورات الملائمة للحرب الشرسة التي إندلعت بعد حين في محاولة لفرض الإرادات و أخرى لكسر الإرادات!!

من الصعب على مقال عابر أن يرصد الظواهر و يتابع الملفات السياسية الغامضة و التفاهمات الدولية و الإقليمية التي رسمت معالم تلك المرحلة لأن العديد من الشهود التاريخيين أو الذين شاركوا في صنع ذلك الحدث الجلل قد تم إسكاتهم بالكامل ولم تعرف الحقائق الكاملة و النهائية أبدا، فرجل تلك الحرب و التي إرتبط إندلاعها بإسمه ( قادسية صدام ) وهو صدام حسين تم إقتلاعه و نظامه من الوجود بطريقة هوليووديةساخنة لا نظير لها و لم تفتح أبدا معه ملفات التحقيق حول تلك الحرب و ضرورتها ولم يكشف أبدا عن التفاهمات الدولية المؤدية لها و الدور الغربي و ألأمريكي خصوصا في التمهيد لها! وهي مهمة كان ينبغي على العراقيين القيام بها!! إلا أن ظروف الإحتلال ألأمريكي و الطريقة الطائفية العجفاء و السخيفة التي تم التعامل بها مع القضايا الوطنية كانت قد عجلت بإعدام و إخفاء صدام حسين على خلفية إتهامات جنائية سخيفة لا ترقى لمستوى الأحداث الكبرى التي تورط فيها النظام سواءا في حربه الإيرانية أو غزوته الكويتية بعد عامين من نهاية تلك الحرب عام 1990، فغزو الكويت مرتبطة ملفاته إرتباطا وثيقا بتفاهمات حرب قادسية صدام!! و القرائن عديدة وواضحة لمن يفهم في شؤون و شجون المنطقة، والدور الغربي التحريضي و اللوجستي فاضحا! و لكنها سياسة طمس الفضائح و إخفاء الملفات و الضحك على دماء الشعوب و مصالحهم في عملية النصب و السمسرة الدولية الكبرى....؟ لقد رحل نظام صدام حسين للأبد وطويت معه صفحات تلك الحرب الماراثونية الشرسة التي أريد لها أن تكون الواجهة التي تمرر من خلالها العديد من المخططات الكبيرة، ففي بداية تلك الحرب تم إنهاء المشروع النووي العراقي بعد الغارة الإسرائيلية في يوم 7 حزيران 1981 ( عملية بابل )!، وفي صفحات تلك الحرب تطورت الحركات الدينية و المذهبية التي أدت لإغتيال الرئيس المصري الراحل أنور السادات في 6 أكتوبر 1981! و تحت دوي مدافع تلك الحرب و بينما كانت القوات الإيرانية تتأهب لإحتلال العمق العراقي في صيف 1982 بعد التراجع العسكري العراقي من العمق الإيراني بهزيمة المحمرة في مايو 1982 تهيأ لإسرائيل عملية إحتلال بيروت وطرد منظمة التحرير الفلسطينية نحو الشتات و نحو ( أوسلو ) تحديدا بعد عقد من السنين!، وضمن صفحات تلك الحرب الشرسة تغيرت بالكامل الصورة الإقليمية و أنبثق مجلس التعاون الخليجي في مايو 1981 لمحاولة لم الصفوف و تدارك الموقف الستراتيجي، و كان من نتائج تلك الحرب المكلفة التي إنتهت بهزيمة جميع الفرقاء في صيف 1988 بعد حروب و مجازر مدنية مروعة في حرب المدن الكريهة أن وضعت السيناريوهات و الرتوش التجميلية لحروب أشد هولا و مهانة كان أهمها حرب وجريمة ( الغزو العراقي لدولة الكويت ) في 2 أغسطس/ آب 1990 الذي وضع حدا لكل أحلام التضامن القومي أو الوحدة القومية و أعاد صياغة ورسم المشهد الستراتيجي بسوريالية مفرطة في غرائبيتها!!

صفحات و نتائج سوداء كثيرة قد مرت تحت عباءة تلك الحرب الشرسة التي لم تكن حتمية و لا ضرورية أبدا و لكنها كانت مركزية في تحقيق الأهداف الدولية الكبرى التي تحققت فيما بعد بسبب غباء و رعونة القيادة العراقية التي عبثت بمصالح العراق و ألأمة العربية....

كلام كثير ووقائع مرعبة لذكرى تلك الحرب و لكن أهم كلمة يمكن أن تذكر في مناسبتها وذكراها الثلاثون هو ذلك القول الذي أطلقه الزعيم الإيراني الراحل آية الله الخميني وهو يعلق على نبأ دخول القوات العراقية للعمق الإيراني بقولته الشهيرة:

الخير فيما وقع!!!

لقد كانت عبارة مختصرة ولكنها تاريخية في دلالاتها و أبعادها الستراتيجية العميقة!!..لن أعلق على مضمون تلك الكلمة و لكنني أترك للقاريء الكريم مشقة تجسيم عباراتها الواضحة و العميقة... إنها الحرب الأسطورية التي حققت نتائجها المروعة بضربة واحدة كل أهداف أعداء العرب و المسلمين.. إنها المجزرة التي لم تكن حتمية و لاضرورية و لكنها قد حدثت على أية حال وهي إستمرار لمرحلة الفتنة الكبرى التي لم تضع أوزارها حتى اليوم للأسف... الرحمة لأرواح من سقط في تلك الحرب المجنونة.. ولا حول ولاقوة إلا بالله...

[email protected]