لايوجد هناك تعريف واضح لمفهوم العقل. فهناك من يقول العقل العربي أو العقل الغربي وهكذا. لكني هنا أقصد بالعقل هي طريقة التفكير التي ينتهجها الفرد في فهم الأمور ومن ثم يحولها إلى سلوكيات. وطريقة التفكير هي مزيج بين العاطفة والتفكير العقلي المنطقي، وتوجد مدراس عديدة تختلف فيما بينها في تحديد لمن الدور الحاسم في صناعة القرار والسلوك، أهو للعقل والتفكير المنطقي أم للعاطفة. وطريقة التفكير أو كما سأسميها العقل هي نتاج وعي الإنسان بذاته ووعيه بمحيطة وهو نتاج الثقافة السائدة التي يعطيه هذا الوعي. ببساطة شديدة إن الثقافة تعطينا طريقة تفكيرنا وأخلاقياتنا وسلوكياتنا من خلال المعايير التي نتدرب عليها منذ الصغير. وكما قلت في مقالات سابقة أن الثقافة تشمل كل التراث الذي نتوارثه من أجدادنا ويضم التراث الديني والعادات والتقاليد بما فيها الفنون والفلكلور والشعر والرموز الدينية وغيرها كتابيا ً كان هذا التراث أم شفويا.

هذا لايعني أن الثقافة هي شيء ساكن غير متحرك، بل بالعكس، إن الثقافة أشبه بالكائن الحي، تولد وتموت وتتطور وتؤثر وتتأثر. لهذا السبب أن في كل زمان تطغى صفة معينة على الثقافة تقولب العناصر الأخرى على مقاسها. ففي فترات معينة تطغى العادات والتقاليد بعد غياب القانون وسلطة الدولة، كما يحدث في العراق حاليا ً، أو تطغى الصفات الدينية على باقي الصفات بفعل نهوض التيار الديني عالميا ً وتراجع دور العلم في حل المشاكل الكبرى من قبيل مسئلة الخلق والوجود. أما في وقتنا الحالي فلا يخفى على أحد أن الصبغة الدينية تطغى على ثقافتنا العربية وتهيمن على عقلنا وطريقة تفكيرنا. اسباب ذلك عديدة ومتنوعة ولامجال لحصرها وليست من صلب موضوعنا. وعلى هذا الأساس أخذت المرجعيات الدينية، الشيعية منها والسنية، الدور الكبير في تحديد وصياغة خطاب محدد يؤثر ويطغى على ثقافتنا ليصوغ وعينا ويعيد أنتاجه بما يضمن بقاء تلك المرجعيات وذلك الخطاب. يمثل هذا الخطاب رجال دين من خلال طريقة التقليد في المذهب الشيعي أو من خلال إصدار الفتاوى على الهواء وغيرها في المذهب السني.

إن غياب أو تغييب، أو قل تقويض، المؤسسات العلمية الاكاديمية وإضمحلال دور المفكرين والمثقفين في طرح مشروع نهضوي يلحق بركب الحضارة العالمية أعطى المؤسسات الدينية الدور الكبير والحاسم في صياغة عقل عربي معوق وعاجز عن التفكير. ليس هذا بسبب أن تلك المؤسسات الدينية غير مؤهلة بل أضافة لعدم قدرتها على تجديد خطابها الذي يلائم روح العصر فهي أخذت على عاتقها الأجابة عن كل الأسئلة المطروحة، وإن كانت من غير إختصاصها. فتراها تفتي بكل شيء حتى الأمور ذات الصبغة الموضوعية، كالأمور العلمية لتصل لعلوم الفضاء أيضا ً. وأخذت على عاتقها أيضا ً الفتوى في الأمور العقائدية مع إن العقيدة ليست من إختصاصها. نعم يمكن أن أحصل على فتوى في العبادات والمعاملات لكن في العقيدة لا يحتاج الإنسان لفتوى بل يحتاج لشرح وتوضيح وتفسير فقط. وعندما تفتح كتاب تقليد أي من المراجع الدينية تقرأ في الصفحات الأولى أن التقليد في العقيدة باطل، فالتقليد يشمل العبادات والمعاملات فقط. إذن، أخذت تلك المرجعيات أدوار ليست من أختصاصها، لتفتي بالطب والهندسة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس، ولتأخذ على عاتقها الأجابة عن كل الأسئلة. بل تعدى الدور لتأخذ دور الله سبحانه وتعالى، بتحديد من يدخل الجنة ومن يدخل النار ومن تشمله الرحمة ومن لاتشمله ومن تجب معاقبته، لتفسر الكثير من الكوارث الطبيعية على إنها غضب وعقوبة من الله على هواها. ولايخفى على أحد أن تلك المرجعيات الدينية تراثها وادواتها هي مزيج متجانس وغير متجانس من نصوص وتشريعات ذات أصول غيبية، وفي أحيان كثيرة يرتبط هذا التراث بعادات وتقاليد وخرافات لاتمت للدين والإسلام بصلة. وتفسيره متغير ومتنوع لذلك تجد مدارس ومذاهب ومشارب كثيرة.

وبسبب إدعائها أمتلاك الحقيقة المطلقة، الدغمائية الطابع، التي لاتتغير أوقعت تلك المرجعيات نفسها في مشاكل لاحصر لها لتجاري التطور الحاصل في كل مجالات الحياة، والقائم على التغيير المستمر في عصر الحداثة وما بعد الحداثة. وعلى هذا الأساس قامت تلك المرجعيات الدينية، السنية منها والشيعية، بصياغة خطاب قائم على الأقصاء والتكفير والخروج عن الدين، ويُلاحظ ذلك من خلال تكفير الشيعة باعتبارهم رافضة أو عدم طهارة غير المسلم أو إخراج من لايؤمن بولاية علي بن أبي طالب من الدين. وعلى صعيد الجغرافيا، يوجد هناك البلاد الأسلامية والبلاد المسيحية أو الكافرة أو دار الحرب ودار السلام.

ولتحمي نفسها عمدت هذه المؤسسات والمرجعيات الدينية على تقوية نفسها من خلال إستراتيجيات مختافة ومنها الإرتباط بالنصوص والرموز الدينية المقدسة لتفادي البحث والتدقيق ولتبقى فوق النقد. فتقوم بحماية النص، بالاحرى تحمي نفسها، من التأويل خارج أطار تلك المؤسسات وبإقصاء وإلغاء وإن تطلب الأمر إفناء، من يصوغ خطاب خارج إطار المؤسسة. بل شملت بقدسيتها رموز قديمة وحديثة لتبقى فوق النقد والتمحيص. ومن هذه الإستراتيجيات هو الإرتباط، بشكل عضوي مباشر أو غير مباشر، بالمؤسسات السياسية من خلال صياغة خطاب أيدلوجي، ليتعدى ذلك فترتبط بمؤسسات الدولة بشكل غير رسمي. لتنشأعلاقة وطيدة بين السلطة الحاكمة وتلك المؤسسات فيسكت بعضهم عن هفوات وإنتهاكات البعض الآخر. بل صار يقوي بعضهم البعض في علاقة ودية لاتخلو من خوف وحذر. ففي أحيان كثيرة تبتلع السلطة المؤسسة الدينية كما في الكثير من الدول العربية، وفي أحيان أخرى تبتلع المؤسسة الدينية الدولة ومؤسساتها كما يحصل في العراق وإيران حاليا ً.

إذن، المؤسسة والمراجع الدينية من ينتج العقل ونحن نفكر، أو قل لانفكر بل هم يفكرون بالنيابة عنا. فالتفكير عملية مجهدة وشاقة ولهذا السبب يقومون بالتفكير بالنيابة عنا لرفع التعب والنصب عنا، لإنشغالنا بامورنا الحياتية. لقد تحول الفرد العربي إلى أداة والة، ويبتذل ويفنى كذات ويختصر ليتحول إلى موضوع فقط. لونه أسود لايعكس الضوء، فقط متلقي وسلبي غير فاعل، بل مفعول به دائما ً وأبدا ً. فهم من يصنعون وعينا إذا ً، ولهذا السبب لابد أن نفكر كما يريدون مادامت مصالحهم بخير. بل الأدهى من ذلك إن فكر العربي بطريقة مختلفة متأثرا ً بثقافات أخرى من خلال العولمة يتهم بالتغريب ومحاولة تفتيت شمل الأمة. ولهذا السبب أخترعوا لنا هويات شيعية وسنية وقبطية، عربية وكردية وامازيقية. بل حولوها إلى أيدلوجيات مقدسة يصعب العيش من دونها ولايمكن توجيه النقد إليها لأنها مقدسة. هذا لايعني بأني ضد الأختلاف والإنتماء لقومية أو طائفة معينة، لكن الخطر عندما يتحول هذا الإنتماء إلى أيدلوجيا. أي يتحول لمشروع يحل مشاكلي السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك. وإن قال قائل مالحل؟

الحل هو من خلال وجود مشروع خطاب نهضوي عصري خارج أطار المؤسسات السياسية والدينية. أو حتى من داخل تلك المؤسسات، فيقوم بقراءة الخطاب الديني قرائة نقدية ويعيد أنتاجه بمايلائم روح العصر والعلم. أي إحداث قطيعة ابستملوجية مع التراث فيعيد قرائته بادوات حديثة. يحمل هذا المشروع مفكرون متنورون، هذا لايعني أن لايوجد هناك من رجال الدين من هم غير متنورين ويتحدثون خارج أطار المؤسسة، نعم يوجد هناك الكثير سنة وشيعة. لذلك يجب إستثمار جهودهم وجهود كل المثقفين والفنانين والكتاب في صياغة هذا المشروع. يقوم هذا المشروع بإنتاج خطاب جديد فيخلق عقلية جديدة تتلائم وروح العصر، هذا لايعني الخروج من الدين، بل بالعكس، الدين يدعم خطابا ً يقوم على العقل. يقول الله سبحانه في الكتاب الكريم (ولاتقف ماليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا). فلم يقل الغيب، بل قال العلم.


[email protected]