أُثِير السؤال في مناسبات وندوات سياسية عديدة: هل يَحقُ لرئيس الوزراء العراقي المُنتخب أِجراء أِتصالات سرية مع أطراف قيادات أرهاببية مسلحة ومُمثليها؟ أُعِيدَ التسائل بعد الأزمة الحالية وعدم أِتفاق الأطراف العراقية على مُرشح مُعين لتبوء مركز السلطة التنفيذية.
فمن هي قوى الأرهاب وماهي أدعاءاتها وماذا تُمثل؟ وهل يحق أدخال أطراف لاشائبة أِجرامية لها في العملية السياسية دستورياً؟

والحقيقة المجردة أن كل طرف من الأطراف العربية والكردية لها أفكار وخصوصيات في غاية التعقيد، بشأن التعامل مع من يُمثل هذه القيادات، بعضها سادية أِنتقامية في الفكر والمضمون والبعض الأخر يتعلق بنصوص دستورية يصعب تخطيها أو تجاوزها من أي مسؤول في السلطة السياسية، ناهيك عن أفكار ومعتقدات الطرف الأهم المُمثَل بالدول الضاغطة على المشيئة العراقية وأرادة قادته الضعيفة، وبالأخص سوريا، السعودية، أيران، تركيا، والولايات المتحدة، التي سبق وأن نوهتُ عن أدوارها في معظم مقالاتي السابقة في أيلاف وحيث تدور بعض الأتصالات المُجزّئة على شكل مساومات وليست محادثات كما حصلَ في السنوات الأخيرة.

ويكاد لايخطئ أي أنسان، دون أستخدام أحصائيات أو أستباق أحداث، بأن الأكراد والعرب الشيعة يُدخِلون في الأعتبار رفض أي خطوة تُمكّن رئيس الوزراء الجديد، مهما كانت كفاءاته التفاوضية وميوله الفكرية، أجراء مفاوضات تتم خفية وراء الستار مع مجموعات أرهابية مشبوهة. أنها واحدة من أهم الأسباب والعقبات في عدم أستطاعة الكتل السياسية الأتفاق على أِعلاء شخصية معينة لهذا المنصب وشكل الحكومة القادمة، وقد يواجهون هذه الخطوة من جديد بالاستياء والشك، بمجرد أستلام رئيس الوزراء سلطاته وصلاحياته التنفيذية وأِعلامهم بها.

المراقبون من الأكراد والعرب الشيعة كانوا قد أعتبروا المحادثات السرية السابقة مساومات وأِغراءات أجراها بعض المسؤولين لمصلحة شخصية لاتدخل في حقل المواطنة والمواطن والحفاظ على حياته وحقوقه ومصالحه، رغم محاولات أِعطاء ألأرهاب صفة الشرعية وخداع المواطن بعدم التميز بينها وبين المقاومة الحقيقة. فهذه المساومات تمت مع أطراف ساهمت في تشريد المواطن من أرضه وهَجّرَتهُ من بلده.

ولعل الأقسى، في وقت يمرُ فيه العراق بوضعه الحالي من صراع المزايدات السياسية الداخلية بالأضافة الى المعارك الدستورية الأخرى، فيما لو قامت رئاسة الجمهورية المُمثلَّة بالرئيس أو أحد النائبين بأجراء أتصالات مماثلة دون علم أو تخويل من رئيس الوزراء واللجان البرلمانية المنتخبة التي ستطأ قدمها مجلس النواب المرتقب. خاصةً وأن الكتل البرلمانية و(الكردية منها على الأخص ولها 57 مقعدا ) تَعتبر قوى البعث العشائري المنتشرة، كسرطان يَسري في جسم الدولة العراقية ودول عربية معينة، وتراقبها كعصابات أجرامية أنفالية، أِن صح التعبير، ساهمت في حملات التشكيك وأصدار الأوامر الصريحة الموثقة والبيانات الأعلامية، في دعوات وعمليات الأغتيالات بين القيادات الكردية، والتفجيرات وزرع الألغام وأشاعة الفوضى المتعمدة لزعزعة الثقة بالموقف الكردي والتحريض على القيام بأنقلاب يُسهّل لقيادة البعث العراقي المنزوي في سوريا الرجوع الى اللسلطة. ما الجديد في كل هذا؟

مسؤولية التفاوض مع أي جهة أوطرف هي مسؤولية وطنية مشتركة لاتتم خلف ستار من مساومات(هذا لنا وهذا لكم ). وقد يلجأ نواب المجلس الى التصويت بحجب الثقة عن رئيس الوزراء المُنتخب وأزاحته في الأشهر الأولى من أنتخابه، بتطبيق حرفي للمادة السابعة في الفصل الأول والمادة الثامنة من الفصل الثاني للدستور، عند الأحساس بوجود مساومات وفقَ ماذكرته أعلاه.

مصادر عراقية مختلفة لاتنفي ضلوع جهات عراقية في أجتماعات سرية لها طابع الأغراء والتهديد وسبق وأن تمت داخل وخارج العراق. والنقطة الأساسية المُحرِجة التي أنوي الوصول أليها هي فيما أِذا قد يقوم رئيس الوزراء المنتخب بأجراء محادثات جانبية أو تفويض أشخاص مؤتمنين لأجرائها نيابة عنه، مع فئة أو فئات تدعي شرعية المقاومة وحمل السلاح ضد النظام الذي وضعت لمساته الولايات المتحدة، وما هو مدى السماح لمثل هذا التفويض السري الخاص وحدوده؟

وقد نبتعد عن الموضوع بحشر نظريات القانون الدولي عن شرعية المقاومة الشعبية المسلحة المُنظَمة نظراً لتلاقي وأصطدام بعضها بعمل عصابات أرهابية عندما تطرحه بعض الأوساط الأعلامية برؤية سطحية، أمثلة تاريخية غريبة لاتجرأ أن تقف بتوازن مع مبدأ الفكر السياسي وتاريخه الحديث، كالقول بأن بريطانيا في صراع طائفي دام لأكثر من أربعة قرون تفاوضت سرياً مع الجيش الأيرلندي السري لسنوات. وفرنسا فتحت باب التفاوض مع المقاومة الجزائرية الى اليوم الأخير من أستقلال الجزائرعام 1962.

أذن هذه الظاهرة ليست غريبة تماماً، أِذ أَنَ دول عديدة تتفاوض مع خصومها وراء الستار وتتصرف وفق مقتضيات أمنها القومي بالتعرف على أيجابيات وسلبيات المباحثات لوضع خطط المجابهة والتحكم ودراسة جدوى الأهتمام بالجلوس مع جهات معينة ومعرفة نوايا وشرعية المطالب من عدمها، فالمثل الصيني القديم يقول ( أذا أردتَ أن تعرف الطريق الطويل أمامكَ، أسأل القادمين منه ). وللتعمق أكثر فأن مايدعو الى القلق في العراق كدولة شقت طريقها بجهود حثيثة للتخلص من الأستعمار البريطاني وقوة السيطرة الأمريكية (في الحالتين قوى أجنبية)، لايستطيع أن يخضع الى أبتزاز عصابات عشائرية أو قومية أو مذهبية محلية وهي ( في مجملها) تعمل لصالح جهات خارجية، ولايمكن لقادة العراق مهما كانت هوياتهم السياسية، تفويض شخصيات لها أتصالات مصلحية مع فدائيي صدام الأجرامية وقيادات البعث القديم العائلية المرجع والتفكير والتي ( نكّلت أساساً بأعضاء وقيادات عراقية من حزب البعث الحقيقي ومناضليه الذين لاشائبة عليهم)، مثلما نكّلت ببقية المعارضين لحكم الأستبداد ودولة الحاكم المُطلق، ولن يكون في الأمكان الأستماع لمطاليب هذه الجهات لمجرد التهديد بحمل السلاح وأطلاق مجموعات من اللصوص والمجرمين والقتلة الى شوارع المدن.

بكلمة قصيرة، أِنَ الهوَّة واسعة بين المقاومة والأرهاب. السنوات الماضية كشفتْ الكثير من أسرار وخفايا تعليمات قيادة عزت الدوري والأحمد والمقاومة الأسلامية الى زُمرالعصابات واللصوص لزرع الأرهاب وتزويدها بالأسلحة والأموال وسبل مواصلات للقيام بأعمال تهزُ وتُفزع وتثير القلق في الأوساط السياسية والشعبية، غرضها زعزعة شعورالأستقرار والأمان ومنع الحكومة من تقديم الخدمات ألاساسية للمواطنين، فالتخويف والأبتزاز السياسي تكتيك قديم أستخدمه ستالين والقوى الفاشية ومافيا العوائل الحاكمة في العالم.

وماكشفته المعلومات الصحفية كصحيفة quot;لوس انجلس تايمزquot; في تقرير المحللان السياسيان quot;بيتر سبيغل و نيد باركرquot; ليست جديدة أو خافية على المسؤولين حيث تطلعتْ الحكومة العراقية والمسؤولون الأميركيون الى انّ الانشقاق في حزب البعث الذي جرى خلال اجتماع مدينة quot;حلبquot; قبل سنوات والأجتماعات اللاحقة التي وسعتْ من شِقة الخلافات على الزعامة في أجنحة البعث المختلفة، يمكن أنْ يخدم حالة الاستقرار في العراق، لكنّ هناك من يتخوف من أنْ يكون الجناح العسكري لحزب quot;يونس الأحمدquot; يتآمر مع جناح عزت الدوري على خطة للعودة الى السلطة عن طريق المفاوضات الجانبية المقترحة، كون الأثنين مطلوبان للسلطة القضائية وفقَ لائحة تهم أجرامية عديدة ترجع الى سنوات ماضية، وأن الحكومة ذات الأغلبية الشيعية تعد التعامل معهما مستحيلاً. وتلوح في الأفق أيضاً أن نسبة قليلة من الاعضاء الشيعة في حزب البعث القديم ومجموعات سنية في الموصل والأنبار وتكريت وديالى كانت على علاقة وطيدة بعشائرية النظام، الدوري وألأحمد، مازالت تُفضل اللقاء و الحوار والتفاوض. علماً بأن نسبة 54% من مجموع اعضاء حزب البعث العراقي قبل سقوط بغداد كانت من الشيعة الموالية لصدام وأبنه عدي.

وللفهم الأوسع، فأن العراق بوضعه الحالي وفي ظل مناخ التمزق القومي المذهبي، لاتحكمه سلطة مركزية قوية وتتصف كياناته وأقاليمه بضعف قيادي عام وتنافس خفي على السلطة، الأمر الذي قد يحدو بالبعض للتصرف الفردي بمحض أرادته الخاصة ومناغاة قوى شريرة بتقديم وعود لها بالمُشاركة في السلطة دون مشورة مبدئية مُسبقة مع الشركاء الحقيقيين، والأضرار بمصالح العراق الأمنية لمصلحة أنية يتم تبريرها بوسائل أِعلامية ممولة تنطلق منها الأشارات الخضراء وقد تكون على المدى البعيد أشدّ خطراً من سائر ما سبقها من مساومات.

باحث سياسي وأُستاذ جامعي
[email protected]