عند الحديث عن الأكراد، خصوصا في ضوء ما حققوه من إنجازات، وما فعلوه وما يفعلونه في كردستان اليوم، علينا، نحن عرب العراق، أن نكون واقعيين وصادقين مع أنفسنا، فنقرَّ بأن الوضع الذي استحدثته الظروف التي أعقبت غزو النظام السابق للكويت أصبح أمرا واقعا ثابتا يصعب تغييره وتستحيل إعادته إلى ما كان عليه قبل ذلك.

خصوصا بعد أن نجحت القيادة الكردية في تحويل كردستان إلى بقعة خضراء مزهرة وآمنة وسائرة في طريق الديمقراطية الصحيحة غير المغشوشة كديمقراطية رفاقنا في المنطقة الخضراء، برغم شكاوى بعض المثقفين الكورد من بعض النواقص والشوائب التي إذا ما قيست بنواقصنا وشوائبنا في بغداد لضحكت حتى حجارة الطريق من بـَطـَر أؤلئك المثقفين.

والذي يسجل لقيادة كردستان أنها تمكنت من إقامة علاقات إيجابية متقدمة مع جميع دول المنطقة، وكثير من دول العالم، حتى تلك الدول المعادية التي أذاقت الأكراد، وما زالت تحاول أن تذيقهم، أبشع أنواع الظلم والعدوان والاضطهاد.

كما أن أبرز مظاهر الحكمة التي انفردت بها هذه القيادة هي شجاعتُها في طي صفحة الماضي الأسود، والعفوِ عمن قاتَلـَها من مواطنيها لحساب النظام السابق، وعدم ارتكابها حماقات زعمائنا في المنطقة الخضراء الذين تفننوا في الانتقام من خصومهم بسيف الاجتثاث تارة، وتارة أخرى بحملات التطهير العرقي والطائفي البغيض في أغلب مدن الوسط والجنوب.

ففي عراقنا العربي فشل القادة الجدد في إقامة نظام ديمقراطي تكافلي ثابت القواعد والموازين، قادر على تحقيق العدل بين أطراف المحاصصة الطائفية، وقيادة رعاياه المساكين إلى شاطيء الأمان. بل إنهم لم يوفقوا في إقامة أي نوع من أنواع الأنظمة، بل إن الذي أقاموه فقط هو شريعة غاب لا أول لها ولا آخر.

ولا يبدو ممكنا، في المدى المنظور، بلوغُهم ولو مقدارَ الحدٍ الأدنى مما حققته القيادة الكردية، وذلك بوجود مكونات المشهد الحالي في المناطق العربية من العراق. فلا الشيعة مستعدون لتسليم القيادة لسني حتى لو فاز بأغلبية ساحقة، ولا السنة قادرون على قبول الهيمنة الشيعية المدعومة من إيران. وبهذا تصبح الصورة واضحة.
ولا أمل في تجاوز هذه الدوامة الدامية ما دامت أحزاب الإسلام السياسي الطائفية الموجهة من إيران، والشلل القومية المتطرفة المدعومة من دول عربية سنية عديدة، تحتكر الصراع.

وبكل المقاييس والمعايير لن نخرج من هذا المأزق إلا بالطريق الثالث المتمثل في تحالف القوى الديمقراطية والعلمانية العربية والكردية، وهو المهمل والمنسي والمحبوس في خزائن الحكام لمعرفتهم بكونه القادر على تحرير الوطن والمواطن من ظلام هذا النفق المظلم الطويل، وبأنه القادر، أيضا، على طرد جميع المتطفلين على الزعامة، من زعماء آخر زمن.

صحيح أن القوى الديمقراطية العربية العراقية اليوم متناثرة ومهمشة، في ظل الهيمنة الطائفية التحاصصية المفروضة بالدعم الخارجي الإيراني والأمريكي والعربي، إلا أن الواجب الوطني والإنساني والحضاري يطالب الأكراد قبل غيرهم بالبحث عنها وتقويتها وتحريكها لتستعيد عافيتها وتسترد قدرتها على فرض الحل الوطني الصحيح لمأزق الحكم في العراق الجديد، لتحقيق تطلعات الجماهير، وتخليصها مما تشهده اليوم من طغيان المصالح الخاصة لدى أطراف النزاع المحلية والإقليمية والدولية، على حد سواء.

فمن خلال حوارات ولقاءات عديدة مع مثقفين أكراد وسياسيين تقدميين، ومع أوساط ثقافية عربية أخرى متحضرة، تبين أن الأرض ما تزال صالحة جدا لاستعادة الثقة المفقودة، وبدء معركة البناء الصعب لغد أفضل للجميع. وهو ما يشيع الأمل في النفوس المتعـَبة، ويضيء القلوب المحترقة ويدق ساعة العمل.

وليس طموحُ العرب العراقيين بأقل من طموح شعب كردستان إلى تأسيس علاقة جديدة بينهما تتمخض عن مجتمع فدرالي ديمقراطي حقيقي عاقل وعادل، حتى لو قاد إلى قيام دولة اتحادية من ثلاث جمهوريات عراقية متآخية متعاونة على البر والتقوى، وليس على القهر والاستعباد والابتزاز.

وتأسيسا على هذا يتحتم أن نبحث عن أفضل الصيغ الممكنة لبناء تلك العلاقة بين الشعبين.
وقبل دعوة الكورد إلى رحلة العودة إلى أشقائهم عرب العراق، ينبغي أن ندعو، في الوقت نفسه، عرب العراق إلى التخلي عن العصبية القومية والطائفية، عندما يتعاملون مع الواقع الجديد لكردستان العراق.

فلا ينبغي أن تصبح عروبة العراق قميص عثمان الجديد، يستغله بعثيون سابقون أو قوميون متعصبون أو طائفيون متطرفون، لاستعادة زعامة مفقودة، أو تحقيق زعامة جديدة. فهذا السلوك المعيب لن يعود على المواطن العربي والكردي معا إلا بمزيد من الألم والخسارة والهوان.

لا ُينكر أن شرائحَ واسعة ًمن المواطنين الكورد تطمح إلى الانفصال عن العراق وسوريا وتركيا وإيران، وتأسيس دولة كردستان الكبرى، كحلم قومي مشروع. لكننا، نحن العرب مثلهم، نحلم بالوحدة العربية، وبعودة الخلافة، وباستعادة قوة الامبراطورية العربية، واستئناف الغزوات والفتوحات، والعودة إلى الأندلس وإلى خراسان. فلماذا ننكر ذلك على الكورد ونُحله لأنفسنا، دون حياء ولا خجل؟

وبعد ثلاث عشرة سنة قضاها الكورد في البناء والعمران، وقضيناها نحن بالاختلاف والاحتراب في الداخل، وبالغربة والضياع في الخارج، هاهي كردستان، شئنا أم أبينا، تتحول إلى بقعة سلام ومصالحة يحج إليها زعماؤنا المتقاتلون على الكراسي في بغداد، طلبا للعون والمشورة، وهم صاغرون.

وبهذه الولادة لدولة كردستان شبه المستقلة عن سطوة الحكومة المركزية في بغداد ظهر شكل جديد للدولة العراقية يمكن اعتباره فيدراليا غير مكتمل، لأنه يقوم بين طرف ديمقراطي وطرف آخر فوضوي لا هو بالديمقراطي ولا الديكتاتوري، وقد أسميتُه في مقال سابق بـ (الدمكـ تاتورية).

ولتصحيح الموازنة ينبغي أن تتخلى القيادة الكردية عن تحالفها مع قوى التخلف القومي والطائفي، وأن تعود إلى التعاون مع القوى الديمقراطية العربية لإقامة دولة اتحادية صادقة، أساسها المصالحُ المتبادلة بين شعوب العراق المتنوعة، تتطلع إلى الغد المشرق المزدهر، وترمي في المزابل جميع الأفكار والشعارات والأوهام الطائفية والقومية الفاشلة. فهذا وحده الضمان الأكيد لإقامة حاضر ٍآمن ومستقبل أكثر أمنا يدوم على أرضنا مئات السنين.

فأمنُهم وأمن أجيالهم القادمة، وأمنُنا وأمن أجيالنا القادمة، لن يتحقق إلى حين يعم السلام والرخاء كلَ مدينة وقرية في وسط العراق وجنوبه،مثلما عم في مدن كردستان وقراها، وتحت جناح دولة واحدة عادلة وعاقلة أو ثلاث دول. لايهم. فهل يفعلون؟