إن مصطلح العقد الاجتماعي يعود في تاريخ الفكر السياسي إلي القرنين السادس عشر والسابع عشر الذين عرفا علماء نظرية العقد الاجتماعي توماس هوبز (1588 ndash; 1677م) وجون لوك (1632 ndash; 1704م) وجان جاك روسو الذي يعود إليه الفضل في صياغة نظرية العقد الاجتماعي- مولود في جنيف والذي عاش في باريس 1778م حتى جلبت له آراءه هذه غضب السلطة الفرنسية آنذاك- حيث يشير في ذلك الوقت إلي مجتمع المواطنين الأحرار الذين يختارون بإرادتهم الحرة شكل وشروط الحكم الذي يعيشون في ظله، وعبر مفكرو ذلك العصر عن شروط الاختيار الحر بـ (العقد الاجتماعي) كانت مقومات هذا العقد وشروطه عند جون لوك وبعده عند جان روسو، تقضي إلي نظام ملكي مقيد يمكن سحب الشرعية منه إذا أخل بحقوق المواطنين.(*)

العقد الاجتماعي هوquot; اتفاق بين أفراد وقوة حاكمة حيث يتم التنازل إرادياً عن بعض الحريات الشخصية مقابل منفعة تتمثل في مجتمع حسن التنظيم أو حكومة رشيدة، وحماية الأفراد من الطغيان، وحماية مجتمعهم من الاعتداءات الخارجية.

لماذا بقي نظريا، وغير ملموس في الدول التي تطورت تطورا يمكننا اعتباره طبيعيا، أو داخليا بإرادات سنسميها انتقالية، من حالة الدولة الكنسية الإقطاعية إلى حالة الدولة البرجوازية دولة العقد الاجتماعي، في الواقع أن التجارب الأوروبية غنية جدا في إعطاء صورة واضحة عن هذه المعضلة التي لازالت تحول بين مجتمعاتنا ودولنا وبين تطورها..
التجارب الأوروبية يمكن اختصارها بين نموذجينquot; الأول- تطور تشاركي بين الملكية وكنيستها من جهة- رغم ما شهدته أنكلترا من حرب أهلية، لكنها لم تستطع اقتلاع النظام الملكي وكنسيته- والقوى البرجوازية الصاعدة في أنكلترا، منذ بدايات القرن السابع عشر.

والثاني- لا تشاركي عبر ما سمي بالثورة الفرنسية والتي تركت أثرها على بقية دول العالم أكثر مما تركت الثورة الإنكليزية التشاركية، التي صاغت عقدها الاجتماعي بمساومات ذات طابع عرفي وشفاهي أيضا! حيث لهذه اللحظة لم تكتب بريطانيا دستورها.

من صاغ العقد الاجتماعي هذا وأسس للدولة الملكية الدستورية الإنكليزية؟ سلطة الأسرة المالكة وكنيستها آنذاك زائد فعاليات البرجوازية زائد نبلاء كانوا محسوبين على الملكية أو نبلاء تبنوا صعود البرجوازية لينضموا إليها، هذه القوى التي صاغت العقد الاجتماعي في انكلترا وسميتquot; ثورة برجوازيةquot;
أما الثورة الفرنسية 1789فقد اقتلعت الملكية من جذورها، وبالأساس كانت السلطة الملكية الفرنسية آنذاك لا تقيم وزنا للكنيسة رغم وزنها المجتمعي في فرنسا، لأن ملكها كان يعتبر أنه يستمد سلطته من الله مباشرة ولا حاجة به لتوسط الكنيسة. لهذا لم تشارك أية قوى ملكية وإقطاعية أو حتى كنسية في صياغة العقد الاجتماعي لقيام الجمهورية الفرنسية، وهذا ما جعل نابليون بونابرت يلغي الاتفاقية بين الحكومة الفرنسية والكنيسة الكاثوليكية1801 بشكل نهائي.

البرجوازية الصاعدة وأسماءها الثورية التي صفت بعضها بعضا كما يقال، والنظم التالية التي أتت بعد الثورة، هي التي اسست لهذا العقد الاجتماعي، واصبحنا أمام دولة جمهورية برجوازية.
وفي كلا الثورتين، نجد أن الشرط التاريخي لم يكن بعيدا عن صياغات تلك العقود وتفاصيلها، والدليل أنها لم تتطرق لحق المرأة في الانتخاب! فما بالنا بالترشح لمناصب سياسية. وبقيت الحال كذلك أكثر من قرن ونصف القرن حتى تسنى للمرأة الأوروبية في القرن العشرين أن تتساوي مع الرجل على هذا الصعيد. وثمة أمر آخر، إن الفصل بين الدين والدولة في أوروبا لم يكن واحدا في دولها، بل أننا لا يمكننا تعميم التجربة الفرنسية في هذا المضمار، ما جرى فعليا هو دسترة حرية المعتقد وممارساته لكل الأديان والطوائف، وحماية أي مواطن مهما كان معتقده، ومساواته أمام القانون.

نستخلص أن العقد الاجتماعي وليد شرطه، ونتاج القوى والفعاليات السياسية وغيرها وما تمثله من مصالح وأيديولوجيات، وموازين قوى في لحظة إنتاجه وهذه من أهم القضايا التي يتم إغفالها عند الحديث عن الدولة والعقد الاجتماعي..الخ. لهذا يختلف مثلا حضور الكنيسة من مجتمع لآخر، ثمة مثال آخر وهو بلجيكا، التي حتى اللحظة على سبيل المثال، يتمتع فيها الملك بسلطة لا بأس بها، تجعله يتدخل من أجل الوصول لتشكيل حكومة بلجيكية، فرضتها أيضا تكونها كدولة ثلاثية القومية، هذه تفاصيل تاريخية لنشوء العقد الاجتماعي في كل دولة غالبا ما يتم نسيانها.

عندما يتحدث ماركس عن الدولة الحديثة بوصفها أداة الطبقة المسيطرة ومعبرة عن سيادة هذه الطبقة في المجتمع، فإنه يأخذ تاريخية نشوء العقد الاجتماعي والدولة معا، كتعبير عن موازين قوى طبقية وسياسية واجتماعية وثقافية، لم يكن من المعقول مثلا: أن تنص دساتير الملكيات الدستورية الأوروبية، على شيوعية الملكية، أو على توزيع عادل للثروة حسب الحاجة وليس حسب العمل والملكية؟!

من حق ماركس أن يراها دولة برجوازية وهو يشاهد بأم عينه القوى البرجوازية تؤسس دولتها وتقيم مجتمعاتها، من حقه ألا يرى أي ضوء خافت يشير إلى دولة حيادية بالمعنى النسبي للعبارة، لأن ماركس ابن عصره كما كان غرامشي أيضا.

وأصبح الحديث عن دولة حيادية أمر عادي جدا، ومفهوم في ظل ما تفرضه موازين القوى الجديدة، التي ظهرت في دول أوروبا الغربية، من نقابات وتجمعات مدنية، وأحزاب يسارية ذات وزن، وأزمات الرأسمالية الدورية وسبل الخروج منها لعبت دورا أيضا في توسيع هامش حيادية الدولة هذا، هذه العوامل وغيرها، كان لها مفعولها على تطور تاريخية الدولة المعاصرة وعقدها الاجتماعي.

عندما يدور الحديث عن العقد الآجتماعي فضمنا نحن نتحدث أيضا عن دولة هذا العقد، لأن الدولة هي علاقة اجتماعية، وليس قوة متعالية- وإن كانت تتمتع بهذا الأمر نسبيا- على مجتمعها يعني أنها عرضة للتغيير و التطور، مثلها مثل أي علاقة اجتماعية أخرى، وهذا ما يتيح لنا إمكانية فهم تطورها التاريخي و أشكالها ووظائفها، وموازين القوى المجتمعية في كل لحظة، مما يوفر إمكانية وضع استراتيجيات من قبل القوى المجتمعية، تسعى لتطوير هذا الشكل المعاصر للدولة.

سيادة الدولة العراقية انهارت ليقوم مكانها سيادة قوات الاحتلال، وانهار معها النسيج الاجتماعي، هذا مثالي الراهن. لقد دخلت القوات الأمريكية عام 2003 وأنهت سيادة الدولة العراقية، وجعلتها مؤسسة أسمية بلا فعل، وبدأت تبحث عن القوى العراقية التي تريد كتابة دستور الدولة الجديدة، والدستور كما هو معروف، هو قوننة العقد الاجتماعي، قوننة لها بعدها السيادي، ولكن جاءت المشكلة الحقيقية! والتي تتمحور حول سؤال واحدquot; من هي القوى التي ستساهم في إنتاج العقد الاجتماعي العراقي الجديد، وماهي الموازين بينها، وماهي مصالحها، وايديولوجياتها، هل هي فعلا قوى ديمقراطية، أو بالأحرى قوى لها مصالح حقيقة في قضية الديمقراطية في العراق؟ وأثناء ذلك لم يكن الأمريكان وهذه القوى هي الأطراف الوحيدة، التي تفعل فعلها في موازين القوى العراقية، بل كان هنالك قوى إقليمية، كإيران والسعودية وسورية وتركيا، كلها أصبح لها منفذا على موازين القوى التي صاغت الدستور العراقي.

الآن انسحب الأمريكان كما يقال، هل للدولة العراقية التي تركوها خلفهم، سيادة على أقليم كردستان؟ هل لها سيادة على جيش المهدي أو على قوات بدر ومن تمثل؟ لهذا العراق لم ينتج بعد عقده الاجتماعي، ومن الواضح أن القادم من الأيام سيحفل بمزيد من تشرذم النسيج الاجتماعي العراقي.

هل ستنتج قوى سياسية تعتمد الدين والعشيرة والطائفة والقومية كحدود غير قابلة للعبور مدنيا، هل هذه قوى يمكن لها أن تقيم مؤسسات عابرة لهذه الحواجز؟ إنها في النهاية حواجز سياسية مصلحية وإن تغلفت بهذه الأغلفة، ونختم بسؤال كي لا نغلق البحثquot; من هي القوى التي تعاقدت وتتعاقد لتنتج الدولة العراقية الجديدة وعقدها الاجتماعي الآن؟
* الباحث السوداني رضوان إبراهيم أستاذ في علم الاجتماع.