ربما يمتد الحديث إلى دول كثيرة عربية وغير عربية، ولكنني سأكتفي بالحالة السورية، حيث أنها لب المعنى بالنسبة لي.
الأمر ببساطة وبدون تعقيدات، هنالك مطب نقع فيه جميعا، والاستثناءات تؤكد القاعدة، وهو أننا عندما ننظر للخلف دوما ننسى لماذا ننظر للخلف؟ وبأي راهن نعيشه يفرض علينا النظرة للخلفquot; التاريخquot;؟

الكتاب والمثقفون السوريون عموما، يهتمون بمواضيع متعددة، ولكن هنالك اهتمام مشترك في الوضعية السورية. وهذا الاهتمام المشترك يتعاطى معه كل واحد منا وفق معاييره الفردية، وخلفيته الأيديولوجية، ومصالحه، ولكن المغفل هو لا شعورنا المعرفي والنفسي، هذا أمر كثيرا ما أحاول الا أتناساه مطلقا، وإن تناسيته أحيانا فسيكون أقوى مني لدرجة انه جعلني اتنساه، في قراءاتي لأية مسألة سورية، وهذا أمر يستحق منا دوما الشغل عليه، وعلى أدواتنا المعرفية والأيديولوجية والقيمية.
لهذا أقول ان الحديث عن الكليات، حديث خطر جدا، لأنه يساهم في إغفال الخصوصيات دون أن تدري أو دون أن يدري صاحب الحديث ذاته، والحديث عن الخصوصيات، يجعل الكليات قضية مهملة، وهذا أخطر.

عندما يشتم أحد البعث والبعثيين، ويشررهم جملة وتفصيلا، وأنا واحد من هؤلاء، أتذكر والدي رحمه الله فأصاب بالضيق! والدي كان بعثيا ومسؤولا، ولكنه أيضا ليس فاسدا وبشهادة كل من عرفه ويعرف عائلتي. فأتسائلquot; إذا كنت أنا وكوني مستوعب للحالة اتضايق! فمابال الناس أيضا؟

وهذا الأمر أعممه نسبيا على موجة الحديث عن الإسلام في المجتمع السوري، إن تشرير الحالة الاجتماعية المسلمة في سورية، واعتبارها مكمن الشر النائم، لن يخلق لنا حالة من القبول الأدبي عند هؤلاء الناس، قال لي أحد الشباب من قريتي في رسالة بعثها ليquot; أستاذ غسان انتم في كتابتكم عن الإسلام تشتمون أمي وأبي وأعماعي وأخوالي وتصفونهم بالدمويين وهم ليسوا كذلك، وأنا لن أستطيع قبول هذا الأمرquot;.

يسمح الآن في سورية بتشرير الإسلام جملة وتفصيلا، جماعة وأفرادا، وتحميله كل مصائبهم ومصائب سورية، ودون أية تاريخانية.. على الرغم ان من يقوم بهذا الأمر يعتبرون أنفسهم تاريخانيين.

كيف يمكننا نقد المجتمع ودون أن نمر بنقد الإسلام؟ وهل يعني أن نقد المجتمع الذي يمر بنقد الإسلام ممنوع عليه أن يفتح ملف الأقليات المسلمة أو غير المسلمة، ان تصف المسلمين بالدموية والإرهاب، أنت لست طائفيا، أما عندما تصف السلطة السياسية فأنت طائفي! وعندما تقول أنه في ظل أزمة المجتمع السوري الحالية، والتي أسبابها في النهاية سياسية بالدرجة الأولى، انه لازالت حتى اللحظة، الفعالية الموجودة داخل الأقليات هذه هي فعاليات ليست مدنية وإن كانت تتمظهر أحيانا كذلك..هي فعاليات أيضا تسيس الطوائف وتطييف السياسة، هنا تصبح وكأنك ترتكب أكبر الكبائر...

عندما يأتي مثقف منحدر من عائلة مسيحية سورية على سبيل المثال، ويبدأ بهجومه على أن سبب الخراب هو الإسلام ويدعو إلى إصلاح ديني إسلامي وبنفس الوقت يدافع عن فعالياته المسيحية الكنسية وغير الكنسية، والتي أيضا لم يجري عليها إصلاح ديني..فكيف يمكن لدعوته أن تستقيم؟

أو عندما يأتينا مثقفا منحدرا من الطائفة العلوية ويقوم بواجبه!!! تجاه أكثرية المجتمع المسلمة السنية، ويشررها بطريقة أو بأخرى، وبنفس الوقت هو ليس لا يتعرض لمخزون تعاليم الطائفة العلوية بل لا يجرأ أن يقترب من هذه التعاليم! ولا يجرأ أن يتحدث عن سر واحد من أسرارها، فكيف لنا أن نصدق، عندما يدعو إلى الإصلاح الديني الإسلامي السني، وكأن الطائفة التي ينحدر منها قد قامت بهذا الإصلاح!

لا يفهم من كلامي أنني أدعو إلى التوقف عن نقد المجتمع السوري بكل حمولاته الدينية والتاريخية والسياسية والثقافية، ولكن العدل كحد أدنى مطلوب من المثقف أو من الكاتب!
وبهذه المناسبة أريد التعليق على لغة الصديق الدكتور عبد الرزاق عيد، التي لا يستسيغها جل مثقفي سورية، عندما يتحدث عن أن كتلة السلطة السياسية هي من رعاع الريف وحثالة المدن..ويعتبر أن هذا توصيفا مفهوميا، وعلمواجتماعي، ويعيدنا إلى ماركس في هذا التوصيف...في هذه اللغة التي تستفز القارئ عيد ليس طائفيا، ولكنه يمكن أن يترك انطباعا وفق التباس المعنى السوري بأنها لغة طائفية أو تترك انطباعا بأنها لغة ارستقراطية مثقفاتية مغرورة، وهذه لاتخدم قضيته التي يدافع عنها، ولكنها تفرح بعض الغلاة الضيقي الأفق في صفوف المعارضة، ولكن عندما تحاججهم بذلك يردون عليك: أنظر إلى فلان وفلان ممن يكتبون عن الأكثرية المسلمة في سورية كيف يكتبون، لماذا مسموح لهؤلاء وممنوع على الدكتور عيد؟

هذا ينطبق على من يعود للتاريخ الآن لتبيان أنه يجب ان يعود الحق لأصحابه، المسلمون والعرب غزاة لسورية ويبدأون بفتح كل الملفات في التاريخ، وكأن الأديان الأخرى بممثليها السياسيين! لم يمارسوا ولازالوا أبشع مما مارسه هؤلاء المسلمين، وهو لا يسأل نفسه، لماذا يعود للتاريخ هذا ومن أجل ماذا؟
ما لاتقبل أن يقال لك، يجب ألا تقوله للآخرين..

كيف لي أن أصدق، وأنا أزعم أنني علماني، أن مثقفا كبر أم صغر، يشتم ويفند وينقد بالإسلام السني في سورية، تحت مسمى أنه علماني، ولا يجرؤ على الكشف لنا عن سر ديني أو معرفي واحد لدى طائفته؟ كيف لي أن أصدق أنه فعلا علماني؟ فكما العلماني في الأكثرية السنية لديه نضالين فيجب أن يكون العلماني في الأقليات الدينية والطائفية لديه نفس النضاليين نضال ضد العسف السياسي ونضال مع الحرية الدينية والسياسية والثقافية.

التاريخ لا يمكن العودة إليه إلا من أجل تزويره، لأن التزوير مرافق لشرط العائد التاريخي، عبر أسئلة: لماذا يعود؟ وأي شرط هذا الذي يعيش فيه يجعله يعود للتاريخ؟ وأية معرفة يستخدمها؟ وأية سياسة يريد خدمة أهدافها؟ وهل أدواته المعرفية والقيمية منزهة وذات ضبط علمي واضح؟ ولدي مثالا بكبار مفكريناquot;

ادونيس عاد للتاريخ والطيب تيزيني وحسين مروة والراحل محمد عابد الجابري ونصر حامد أبي زيد الذي تعرض بدراسة مفصلة عن فهمه للعودة للتاريخ بما هي إشكالية معرفية مزمنة، في كتابه القيم عن ابن عربي، عنوانهquot; فلسفلة التأويلquot;.. والقائمة تطول، والسؤال ما الذي يجعلهم يتوصلون لقراءات مختلفة ومتناقضة احيانا، لنفس التاريخ؟

من يريد دولة معاصرة دولة حريات عامة وفردية، دولة مؤسسات وحقوق إنسان، دولة يشعر بانتماء إليها يفوق أي انتماء آخر لديه، عليه أن يتسق مع هذا الأمر...
السياسة المعاصرة هي التي تقف خلف كل هذه التورطات الأيديولوجية، والدعوات..فكما تقسمنا السياسة الراهنة وشرط عيشنا الراهن، وتجعلنا مختلفين في الرؤى والمصالح والمعارف، أيضا ستكون قراءاتنا للتاريخ تبعا لهذه المنظومات الراهنة.. لا توجد عودة للتاريخ نزيهة أوقادرة على أن تكون نزيهة، لأن النزاهة أمر مستحيل في هذه الحالة، مثال من السينما الأمريكية، حيث أنها تناولت تاريخ المسيحية بأفلام كثيرة، ولكنك لا تجد فيلما يشبه الآخر بحمولته الأيديولوجية..

الغرب التعددي حل هذه المسألة حلا نسبيا من خلال، إيجاد مؤسسات بحثية في التاريخ، لا تعتمد رأي مثقف أو اكاديمي واحد بل تعتمد على محصلات آراء لباحثين كثر، المؤسسة هي من تكتب تاريخ الغرب الآن، بينما ليس لدينا في سورية مؤسسات تكتب تاريخ سورية، ومنزهة عن دوافع سياسية...في الغرب البحث ليس منزها، ولكن للباحثين استقلاليتهم السياسية الواضحة وليست المطلقة بالطبع، ولهذا كل جامعة غربية لها مراكز بحوث تاريخية...

واختم quot; أين هو موقع السلطة السياسية السورية ومصالحها ومصالح كتلتها الشعبية والتي هي ليست من الطائفة العلوية فقط، في كل هذا؟ ومادورها؟ وما الذي تريده؟