يبدو ان المسؤولين في الجنوب السوداني كانوا اكثر ذكاء وحنكة من المسؤولين في الشمال العراقي، فهم استطاعوا ولاول مرة ان ينتفضوا بوجه الحالة الجغرافية السياسية الجامدة التي فرضت عليهم من قبل الاستعمارquot; الغربيquot; منذ عقود من الزمن ويتحرروا او في طريقهم الى التحرر من الوصاية الاقليمية quot;غير الراشدةquot; و يستفيدوا من الازمات الاستراتيجية المتلاحقة التي واجهت النظام السوداني، ويستثمروا غباء قادته وطيشهم في التعامل مع العالم الحر ومؤسساته القانونية والانسانية وانتهاكهم الدائم لحقوق الانسان في الجنوب و اقليم دارفور و تحديهم السافر لقرارات الامم المتحدة، وتجاهلهم المستمر لتحذيراتها المتلاحقة التي تدعو الى الانصياع الى القرارات الدولية..
الامر الذي ادى في النهاية الى تراكم العقوبات على الدولة و مؤسساتها الحيوية وشخصياتها السياسية العامة ومن اهم هذه الشخصيات التي طالته تلك العقوبات الصارمة ؛ رئيس الجمهورية..
فقد اصدرت المحكمة الجنائية الدولية امرا قضائيا بالقبض عليه وجلبه الى quot;لاهاي quot; مقر محكمة الجنايات الدولية و محاكمته بتهمة ارتكابه جرائم حرب من الدرجة الاولى، مما الحق اهانة بالغة بسيادة السودان واستقلاله..
و كعادة رؤساء الدول التي تحكمها انظمة ذات طبيعة شمولية، فبدل ان يقر quot;الرئيس المتهم quot;ويعترف بأخطائه الكبيرة الكثيرة ويعيد حساباته quot;السياسية quot;من جديد وفق منظور القانون الدولي ومباديء حقوق الانسان، ويتعهد باصلاح الاوضاع و التعاون مع الجهات القضائية الدولية، تمهيدا لرفع القيود الصارمة عن بلاده، بدلا من ذلك قام بحركة لاتنم عن الحصافة و الحنكة السياسية، وتحدى تلك القرارات بشكل مستفز اشبه الى حد كبير بتحديات الرئيس الايراني احمدي نجاد quot;اليوميةquot; حيال المجتمع الدولي، وصدام حسين في استهتاراته المعروفة بالاجماع الدولي الذي اوصلته في النهاية الى حتفه..
لم يدع القادة الجنوبيون الاخفاقات السياسية الخطيرة التي يشهدها السودان ان تمر مرور الكرام، بل اغتنموا الفرصة للمطالبة بالانفصال عن السودان عن طريق اجراء استفتاء جماهيري ديمقراطي، بعكس القادة الكرد، الذين لم يستطيعوا ان يستفيدوا من حالة الفوضى التي دبت في مؤسسات الدولة العراقية ابان سقوطها عام 2003 ليضعوا العالم امام مطالبهم المشروعة، التي طالما حاولوا تحقيقها بطرق اخرى، بل على خلاف عادة السياسيين المحترفين، لملموا شتات الدولة المبعثرة من جديد وسلموها quot;مبيضة و مقشرةquot;لاخوانهم العراقيين quot;الشيعةquot;..
وهذا اول خطأ استراتيجي ارتكبوه وثاني خطأ قاموا به عندما تجاهلوا نتيجة الاستفتاء الذي اجري على هامش الانتخابات التشريعية العامة في البلاد عام 2005 والتي صوت فيه اكثر من98 % من الشعب الكردي لصالح استقلال كردستان عن العراق، ولكن تجاهلوا ارادته وفوتوا عليه فرصة ذهبية.. ولكن على العكس من هؤلاء، قرر قادة جنوبيون في السودان المضي باتجاه الحرية مهما كان الثمن، و قد اجمع المراقبون السياسيون انه اذا ما تم الاستفتاء بشكله الطبيعي في يناير (كانون الثاني) المقبل ولم يتخلله أي عمل تخريبي من قبل الحكومة في الشمال، او من جانب القوى الاقليمية، فان95% من الشعب في الجنوب سيصوتون لصالح الانفصال النهائي عن السودان وتشكيل دولتهم المستقلة.. وفي حال حدوث ذلك وهذا ما يتوقعه المراقبون، فانهم سوف يحققون اهم واعظم انجاز تاريخي على الصعيدين الاقليمي و الدولي، فعلى الصعيد الدولي ؛ يضطر العالم الحر الى الرضوخ لارادة شعب الجنوب ويحترم اختياره في الاستقلال بطرق شرعية وديمقراطية مائة في المائة ويرحب به في نادي الدول المستقلة ذات السيادة الكاملة، و على الصعيد الاقليمي يكون الجنوبيون قد وجهوا ضربة قاضية الى البنية quot;الجيوبوليتيكيةquot;التقليدية للمنطقة و تخلصوا نهائيا من العقدة الاقليمية المستحكمة التي تحذر بشدة المساس بنظامها الثابت الذي لايتزعزع تحت أي ذريعة، بخلاف الاكراد الذين ما زالوا يعانون من هذه العقدة المرضية التي تمنعهم من الخروج عن المألوف الاقليمي، والتخلص من القوقعة quot;الجغرافيةquot; الضيقة التي حشروا فيها، الامر الذي جعلهم عاجزين دائما عن اتخاذ قرارات استراتيجية حاسمة باتجاه الاستقلال..
هذه الحالة النفسية المعقدة التي تشكلت لدى الاكراد بمرور الوقت، حتى غدت مرضا مستعصيا يحتاج الى علاج جذري، هي التي دفعت بزعيم مثل مام جلال الى اعتبار انشاء دولة كردية quot;حلما مستحيل تحقيقهquot;..
على الاكراد التحرر اولا وقبل أي حديث عن الحرية والاستقلال وتشكيل دولة من الشعور العميق الذي خلقه الاستعمار و رعته و رسخته القوى الاقليمية لسنوات في نفوسهم بعدم جدوى محاولة تغيير الوضع الجيوسياسي القائم في المنطقة، كأنه قدر محتوم، لابد من القبول به و التعايش معه، سواء رضوا بذلك ام لم يرضوا.. فمن دون التخلص نهائيا من هذا الكابوس الجاثم على صدورهم، لن يستطيعوا ان يصلوا الى ما سوف يصل اليه الجنوبيون عما قريب ولو بعد الف سنة..
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات