في ظل ظروف و عوامل و مؤثرات إقليمية ودولية حساسة و معقدة، و أجواء نفسية مضطربة و أخطار متوثبة لرياح الفتنة و التكسيح و التشظي في العالم العربي تتوالى الذكرى السنوية السابعة و الثلاثون لحرب السادس من تشرين أول/ أكتوبر 1973، وهي واقعة تمثل في موازين الصراع العربي/ الإسرائيلي أهمية إستثنائية لكونها الواقعة الأولى الذي إنتصف فيه العرب من آلة الحرب العدوانية الإسرائيلية المتغطرسة التي أمعنت إذلالا و تمزيقا و إهانة بالجيوش العربية طيلة ربع قرن و يزيد، قبل أن يثبت الجندي و المقاتل العربي من أن عصر القوة و الهيمنة و البلطجة الإسرائيلي لا يمكن أن يستمر في كسر إرادة الرجال وفي قلب و تشويه كل موازين و حقائق القوة الذاتية للأمة العربية التي لا يمكن أن تتصف بصفة الجبن و التخاذل التي أرادوا إشاعتها و إلصاقها بالمقاتل العربي الشجاع الذي لا يتحمل أبدا مسؤولية عجز و تخاذل بعض الأنظمة العربية التي إكتفت بالشعارات البراقة الخادعة التجميلية فيما عملت حثيثا على كسر إرادة وهمة و عزم الإنسان العربي.

فإذا كانت هزيمة الخامس من حزيران / يونيو 1967 المذلة قد أريد لها أن تظل عنوانا دائما على حالة العجز العربي و التفوق الحضاري و التكنولوجي الإسرائيلي، فإن يوم السادس من اكتوبر عام 1973 كانت البرهان الأنصع على تهاوي و فشل كل الدعايات النفسية المحبطة و أباطيل البروبوغاندا الصهيونية، فما حدث في صيف 1967 القاسي من هزيمة عسكرية وحضارية مروعة لا يعكس أبدا حقيقة الإنسان و المقاتل العربي و لا ينهض كدليل على تخلف المقاتل العربي بقدر ما كان دليلا ساطعا و موثقا على عجز الأنظمة المتسلطة بسلاح القمع و الخوف على شعوبها و التي تحصنت داخليا ضد شعوبها بعد أن إعتبرتها الخطر المباشر!!، فيما تركت العدو الخارجي يسرح و يمرح و يبني قوته و يعد الخطط العسكرية و الستراتيجية الكاربونية المشابهة لخطط الماضي دون أن يعي بعض العاجزين من القادة العسكريين الوهميين الذين لا يقرأون وحتى إن قرأوا فإنهم لا يستوعبون شيئا من فن إدارة الصراع فضلا عن قيادة العمليات و إدارة المعارك فضلا عن شؤون قيادة الجيوش وحيث وضعتهم ( الأقدار الثورية ) أمام مهام و تحديات أكبر بكثير من قدراتهم المحدودة أصلا ! فحصل ما حصل وذلك من طبائع الأمور، فالإناء ينضح بما فيه، فكيف ننتظر ممن كان برتبة صاغ ( رائد ) أن يرتقي فكرا و علما وتخطيط ستراتيجي ليصل بقرار جمهوري و برفسة من ( مجلس قيادة الثورة ) لرتبة ( المارشال ) النادرة أصلا في الجيوش الدولية المحترفة!!؟ كيف ننتظر ممن وصل لهذه الرتبة العسكرية الرفيعة لا عن علم وخبرة ودراية ودراسة بل بسبب الطفرة الوراثية أو العشائرية أن يحقق الإنتصارات أو الإنجازات.

كان الإسرائيليون يتصورون وهم يبنون إستنتاجاتهم و توقعاتهم وفق حسابات القوة المجردة من أن العرب لن تقوم لهم قائمة بعد هزيمة يونيو 1967، وكان وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه دايان ينتظر على الهاتف كما قال صوت الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وهو يعلن إستسلامه التام للإرادة الإسرائيلية؟ و ما درى بإن جراح الهزيمة المتقيحة أقوى من نظام جمال عبد الناصر العسكري ومن بعض رجاله الذين تحكموا بالجيش المصري ليس بسبب الكفاءة و إنما عن طريق الولاء فقط لا غير و لغرض تأمين نظام الحكم ( الثوري ) من اخطار إنقلابية محتملة كل وقت و كل حين! فإلانقلابيون لا ينامون الليل أبدا و يبحثون عن أهل الولاء و ليس الخبرة،لذلك كله فإن الهزيمة الحقيقية لم تكن هزيمة للشعبين المصري و السوري و الفلسطيني و بقية الشعوب العربية، بل كانت هزيمة ساحقة ماحقة لنهج سلطوي خاطيء و لمرحلة عبثية حفلت بالشعارات و الأناشيد و تقديس الأصنام البشرية و صناعة الدكتاتورية الإستبدادية زرعت الذل و الهوان و اليأس و الإحباط في النفس العربية، لقد أرادوا لحزيران / يونيو أن يكون الضربة القاضية للمشروع الحضاري العربي و لكنهم فوجئوا بحجم الرفض و التحدي و الإصرار على الثأر المقدس مهما غلت التضحيات وهو ما سطر ملاحمه الكفاحية فعلا الشعب المصري في حرب الإستنزاف و التي كلفت الشعب المصري تضحيات كبيرة و مؤلمة ولكنها بالمقابل أفهمت الإسرائيليين بعجزهم التام رغم إنتصارهم العسكري الكبير بسبب عجزهم عن فرض إرادتهم، فالحرب في النهاية صراع إرادات، وقد أبت إرادة المصريين و العرب إلا أن تفرض على نظام عبد الناصر رفض الهزيمة و الإستعداد لجولة ثأرية تغسل عارها الشنيع و تعيد ترتيب المواقف و الأمور، و إذا كان جمال عبد الناصر قد رحل في أبشع ظروف تمزق عربي عام 1970 فإن هدف الشعب و الأمة لم يمت بموته، بل ظلت دماء الشهداء المسفوحة في سيناء غدرا و غيلة عن الثأر تستفهم، وواجه خليفته المرحوم الرئيس أنور السادات وهو يحاول إعداد ساحة المواجهة للثأر و إزالة آثار العدوان تحديات هائلة تتمثل في توجيه الوضع العام بإتجاه الهدف المرسوم و التخلص من مراكز القوى الرافعة لقميص عبد الناصر وهي الشهيرة بمناوراتها و أساليبها الخاصة وهو ما تحقق فعلا في 15 مايو 1971 إضافة للتحديات التي فرضتها حركة الشباب المصري في الجامعات المطالبة بتنفيذ وعود ( عام الحسم )! وهو العام الذي إمتد طويلا من خريف 1970 و حتى خريف 1973، حتى تحقق الحلم المبني على وقائع دامية من التضحيات الشعبية الهائلة، وحانت ساعة المواجهة و تلقى ( جيش الدفاع الإسرائيلي ) في ذلك السبت الخالد في السادس من تشرين أول/ أكتوبر 1973 أول و أكبر لطمة حقيقية في تاريخه المبني على الغدر و العدوان، وحيث تساقطت الحصون و الموانع التي ظنوها عصية على الإختراق ورفعت رايات العروبة على الضفة الشرقية لقناة السويس وعلى رمال سيناء المقدسة لتكون عنوانا على خواء العنجهية الإسرائيلية وبرهانا على قدرة المقاتل العربي على الإنتصاف لكرامته إن تهيأت له الظروف المؤاتية، وبعيدا عن الإستغراق طويلا في متابعة صفحات تلك الملحمة و النهاية السياسية و العسكرية التي إنتهت إليها الأمور و بقية التفاصيل الميدانية للعمليات العسكرية الكبرى التي جرت ومنها معارك الدبابات الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، فإن الإسرائيليين قد تذوقوا للمرة الأولى في تاريخهم المعاصر مرارة الهزيمة و إذلال الأسر لكبار جنرالاتهم كما حصل مع الجنرال مدرعات إبراهام مندلر، و تلطخت سمعة وهيبة جيشهم السوبرمانية بالوحل في رمال سيناء المحرقة وعلى خرائب خط بارليف، فكان يوم كيبور أو ( الغفران ) الإسرائيلي عنوانا لهزيمة لن يمحوها الزمن أو تتناساها الأيام وكان زلزالا هز البيت الإسرائيلي هزا عنيفا و جعل ( غولدا مائير ) تبكي وهي تتوسل من أجل الدعم و الحماية ألأمريكية، وكان يوم الغفران الإسرائيلي غفرانا حقيقيا للقيادات العسكرية العربية المصرية و السورية و من ساندها من الجيوش العربية لهزيمة سابقة كانت ظروفها خارج نطاق سيطرتهم، لقد عملت الستراتيجية الإسرائيلية على أن لا يكون هنالك يوم غفران آخر من خلال تمزيق أوصال الجبهة العربية و التضامن العربي وهو الأمر الذي فعله ( هنري كيسينجر ) مستشار ألأمن القومي ألأمريكي السابق ووزير الخارجية الذي دشن ستراتيجية التمزيق في المنطقة ضمن حلقات متتابعة، فلم تكد تنته ترتيبات مراحل فض الإشتباك في سيناء و الجولان حتى تجسدت بشاعات الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 و التي كانت بذورها و مسبباتها كامنة في الصيغة الطائفية اللبنانية العليلة، ثم جاءت المبادرة التاريخية و الشهيرة للرئيس السادات بزيارته التاريخية للقدس في 17 نوفمبر 1977 و إلقائه لخطابه الشهير في الكنيست الإسرائيلي لتكون أكثر من مجرد صدمة كهربائية لكونها قد تحولت لمرتكز و منطلق سياسي ودبلوماسي جديد و مختلف في المنطقة التي شهدت منذ تلك اللحظة تشابكات داخلية رهيبة و محاور سياسية لم تكتمل حلقاتها و صراعات إقليمية كبرى كان قمة إنفجارها مع إندلاع الحرب العراقية / الإيرانية عام 1980 و حيث عاشت المنطقة بأسرها سلسلة من التداعيات التي أدت لجريمة الغزو العراقي للكويت عام 1990 و التي كانت تحولا كبيرا في مجال العلاقات الدولية بأسرها، لقد جرت أحداث رهيبة و مرت مياه ودماء عديدة تحت كل الجسور و دخل الجيش الإسرائيلي بيروت عام 1982 و تمدد المشروع الصهيوني فيما توسع التراجع العربي، ثم جاءت مرحلة ( أوسلو ) عام 1993 و التي تستمر حلقاتها حتى اليوم.. لقد كانت حرب السادس من اكتوبر ملحمة كفاح عسكرية رهيبة غيرت نتائجها وجه المنطقة و العالم، فالرحمة على أرواح الشهداء الذين حرروا بدمائهم الغالية الإرادة و أستردوا الكرامة من أبطال الجيشين المصري و السوري، والرحمة لروح الرئيس قائد العبور و النصر و بطل السادس من أكتوبر الذي شاءت إرادة الله أن يرحل في يوم نصره الرئيس محمد أنور السادات الذي إقترن نصر أكتوبر بإسمه رغم، لقد كانت المسافة بين 6 أكتوبر 1973 و 6 أكتوبر 1981 حيث أستشهد السادات مرحلة من أشد مراحل التاريخ العربي غليانا و متغيرات.

[email protected]