الجنون هو أقل وصف يمكن أن يطلق على الأحداث التي تبعت اختفاء السيدة كاميليا شحاتة عن منزل الزوجية الذي يجمعها بالقس تداوس سمعان بمدينة بني مزار المصرية. مظاهرات غاضبة تقضم في رصيد مصر الحضاري، شائعات مغرضة تنال في أمن وسلام هذا البلد، قصص مختلقة وكاذبة تشعل النفوس وتثير الفتن وتهدد الأبرياء، حملة مسعورة تخفي وراءها تطرفاً أحمقاً وكراهية ممقوتة، ووسائل إعلام تخلت عن أهدافها النبيلة وراحت تبث سموماً في جسد مصر الواهن بسبب التخلف والجهل والانغلاق وغياب الحريات وانعدام المساواة. الأسباب التي تدفع لهذا الجنون واضحة وهي تتلخص في رغبة البعض في أولاً زعزعة استقرار مصر وثانياً تهديد وترويع الأقلية المسيحية في المحروسة.

تحولت قضية السيدة كاميليا شحاتة بفعل التطرف إلى مسألة خطيرة تهدد بالفعل أمن ومستقبل مصر بعدما جرى تغييب التعقل والتوازن في التعاطي معها. ورغم أن كل الأطراف المعنية القريبة من التفاصيل الدقيقة للقضية بمن فيهم من إسلاميين يحسبون على المتطرفين أنفسهم مثل الدكتور محمد سليم العوا أكدوا مرات عديدة بأن السيدة كاميليا لم تشهر إسلامها على الإطلاق، إلا أن المتطرفين الإسلاميين الذين يزيفون الحقائق ويقلبون الوقائع يصرون على أنها أعلنت إسلامها حتى أنهم اخترعوا قصة وهمية لإسلامها وقاموا بتزوير صورة لها ترتدي فيها حجاب رغم أن أبو يحي مفتاح فاضل الذي قالوا أنه قاد السيدة للإسلام نفي في البداية وجود صور لها بعد إسلامها المزعوم.

أخطاء بلا حصر لازمت القضية من الدقائق الأولى لاختفاء السيدة كاميليا قبل نحو ثلاثة أشهر. فقد أخطأت السيدة نفسها حين انتهجت أسلوب الاختفاء بعيداً عن مدينتها بني مزار واللجوء للإقامة لدى إحدى صديقاتها في القاهرة للإعراب عن غضبها من زوجها. وأخطأت السيدة أيضاً حين لم تسع للظهور علناً بعد اشتعال الموقف وانتشار الشائعات بأنها اختطفت على أيدي مسلمين. وأخطأ زوج السيدة كاميليا، القس تداوس سمعان، حين لم يقل الحقيقة وأخفى عن الجميع الخلافات الزوجية التي نشبت بينه وبين السيدة كاميليا. وأخطأ القس أيضاًً حين تزعم الحشود التي تجمعت بالكنائس والتي اتهمت المسلمين باختطاف السيدة كاميليا وطالبت بإرجاعها إلى أسرتها.

لم تتوقف الأخطاء عند هذا الحد، بل أن الكشف عن السيدة كاميليا صاحبته موجات متزايدة من الأخطاء. جاءت الأخطاء هذه المرة من الطرف المسلم الذي التقط خيط القضية ونسج منها قصة وهمية تقول بأن السيدة ذهبت إلى أحد المشايخ وطلبت منه مساعدتها في إعلان إسلامها في الأزهر. ومضت القصة الوهمية في الادعاء بعمق إيمان السدية كاميليا بالإسلام حيث ادعى مؤلفو القصة بأنه تحفظ القرآن أو على الأقل سور كاملة منه، وأنها تجيد وتحرص على أداء الصلوات الإسلامية الخمس في مواقيتها. وختم المتطرفون قصتهم الوهمية بزعمهم أن الأزهر رفض إشهار إسلام السيدة كاميليا وأن الأمن المصري اختطفها قبل تمكنها من إشهارها إسلامها بصورة رسمية.

لم يكن في الإمكان إقناع المسلمين بكذب الادعاءات التي أطلقها الكاذبون بشأن إسلام السيدة كاميليا، فقد تحولت القضية إلى ما يشبه كرة الثلج التي تتضخم كلما جرى دحرجتها. ومع كثرة تداول القضية وكثرة تناول الصحف الصفراء لقصة إسلامها الوهمية ضاعت الحقيقة وأصبحت السيدة كاميليا مسلمة لا بإيمانها ولكن باقتناع وإيمان المسلمين.

ارتفعت الأصوات التي نددت بالكنيسة رغم أنه جرت العادة على أن الكنيسة لا تحرك ساكناً حين يتحول بعض المسيحيين إلى الإسلام. وهاجم المتطرفون البابا شنوده وزعموا بأنه يمارس الإرهاب عن طريق اختطاف النساء المتحولات من المسيحية إلى الإسلام رغم أن رجال الأمن هم من كانوا سلّموا السيدة كاميليا إلى الكنيسة باعتبارها زوجة مسئول كنسي. ولم يقتصر المهاجمون للكنيسة على الجماعات الإسلامية التي تمارس الإرهاب أو جماعة الإخوان المسلمين المتطرفة وإنما شمل أيضاً مسئولين دينيين مسلمين معروفين باتخاذ مواقف من المسيحية مثل مفتي الديار المصرية الذي يرفض حتى تهنئة المسيحيين في أعيادهم.

ومع اندلاع المظاهرات الحاشدة في المساجد والمناداة بالتضييق على الكنيسة واتهامها ظلماً بممارسة الإرهاب وبتشكيل دولة داخل دولة وبتخزين الأسلحة بالأديرة والكنائس وباختطاف المتحولات للإسلام ازداد الموقف تعقيداً بشكل أصبح يهدد بانفجار وشيك في مصر. ومن هنا أصبح من الواجب على المؤسسات المصرية التدخل بشكل فوري وقبل فوات الأوان لانقاذ مصر من مستنقع الخراب الذي يريده لها الكثيرون من المتطرفين الذين يأملون أن تتحول مصر إلى أفغانستان أو شيشان أوبوسنة أو صومال حتى يتسنى لهم ممارسة الإرهاب والجهاد والقتل والترويع فوق أراضيها. وفي هذا الصدد فقد كان مثيرا أن يدعو كاتب سعودي المسلمين المصريين للانتفاض دفاعاً عن حقوق من قال أنهن quot;مختطفاتquot; تحولن عن اقتناع من المسيحية إلى الإسلام.

الوضع الراهن في مصر يتطلب من المصريين جميعاً وقفة مع الذات لمراجعة المواقف وإعادة الحسابات بشأن الحياة مع الأخر. أعلم أن المسلمين المصريين حساسون في ما يتعلق بقضايا الدين. ولكن لماذا السماح للمتطرفين بالعبث في أفكارهم؟ ولماذا الكذب لأسلمة سيدة؟ ولماذا نشر الشائعات الهدامة؟ ولماذا الكراهية للمسيحية والمسيحيين؟ ولماذا النزعة التنافسية في اجتذاب المسيحيين وبخاصة الفتيات والنساء؟ ولماذا الصحافة الصفراء التي تزيد القضايا التهاباً؟

ثم لماذا الضجة على الجانب المسيحي إذا ما تحولت، بحق وليس كما في حالة السيدة كاميليا، زوجة قسيس عن المسيحية؟ المسيحية لن يعيبها أبداً تحول زوجة قسيس عنها، فالمسيحية لا تفخر أبداً بمسيحي بالإسم أو مسيحي بالوراثة أو مسيحي غير مؤمن بقلبه وعقله. المسيحية لا تجبر أحداً على البقاء بها، ولعل سر سمو المسيحية يكمن عدم إجبارها البشر على اعتناقها، إذ لا حدود في المسيحية تجبر المسيحيين على عدم التحول عنها ولا ضغوط تصدر عنها تدفع غير المسيحيين للتحول إليها.

قضية السيدة كاميليا ليست مسألة تحول امرأة من المسيحية إلى الإسلام، ولكنها مسألة اختبار لقوة النظام المصري ومسألة ضغوط يمارسها المتطرفون على المسيحية التي يكرهونها والكنيسة التي لا يريدونها في مصر. لست أعتقد أن عاقلاً يصدق أن المسيحيين يمكن أن يختطفوا مسلمة في مصر التي تضيّق عليهم وتسلبهم حقوقهم وتتغاضى عن عمليات خطف القاصرات المسيحيات اللائي تجبرن على التحول إلى الإسلام. القضية المثارة هنا تتطلب مجرد عقل للتفكير فيها وفي ملابساتها حتى يدرك المرء كذب دعاوى المتطرفين. لقد أصبح التعقل واجباً على جميع المصريين الشرفاء الذين يخشون على بلدهم من الانهيار الذي يتمناه له المتطرفون. أما المظاهرات والشائعات والدعوة للانتفاضة فهي كلها أعمال يراد بها السوء لمصر. أرجو مخلصاً ألا يقع المصريون في الفخ الذي ينصبه لهم المتطرفون.


[email protected]
Twitter: @JosephBishara