تزخر مجتمعاتنا في الآونة الأخيرة بعاهة المتحدثين (المدعين) من الجنسين، ممن يدعُون الإحاطة بسائر العلوم ولا يسمحون لأحد بالتحدث في حضرتهم. يتحدثون في كل شىء، ويُنظرون ويفتون في شتى المجالات، ولا يمكن أن يقولوا: كلمة لا أعرف، إلا تعجبا!، أو لالتقاط أنفاسهم!

ففي مجال الطب نجدهم يتحدثون بحماسة، ويتبارون مع أنفسهم ويتحدون الأخصائيين في وصف الأعراض والعلامات،وفي التشخيص النظري، والإكلنيكي، والنصح بالدواء والجرعة من عدمها، وبطرق المعالجة المختلفة مهما ندرت وإستحالت. بل إنهم يحددون لك الطبيب والمستشفى والبلد الذي يجب أن تتجه له لمعالجة حالتك!. ولهم ألف مصدر غير طبي، وألف ألف وسيلة للإقناع ليس أقلها الحلف بالله. حتى أنهم اصبحوا ممن يهدد المجتمع بتدني وسؤ الثقافة الطبية، ودخول المعلومة المغلوطة والمكذوبة وتأصيلها. فهم قارئون جيدون لما تنشره الصحف والمجلات عن الأمراض وطرق التداوي والأدوية. وهم مستمعون ومشاهدون جيدون للبرامج الطبية. وهم باحثون ينقبون في غثاء الشبكة العنكبوتية. وهم متحدثون مقنعون يتمكنون من إقناع المستمع بمدى علمهم الأجوف. أشخاص أبتليت بهم مجالسنا، لحبهم للتنظير، وإدعاء العلم والنصح،وهم لا يملكون من الشهادات سوى شهادة (قيل وقال) في التخصص الدقيق (خذ العلم).

ونحن نعلم أن أي طبيب إستشاري أكاديمي وقبل أن يتمكن من القيام بالتشخيص وإسداء النصح، وصرف الدواء يحتاج لدراسة متعمقة وممارسة عملية لا تقل عن الخمسة عشر سنة متصلة. وهم بفهلوة المهرجين يريدون أن يختصروا ذلك بمجرد سماعهم لقنوات غير متخصصة!.
يذهبون لزيارة المريض فيوقعونه في أشد الحرج مع أطبائه، ويصيبونه بالشك في ما يتلقاه من معالجة، ويشعرونه بالتقصير لأنه لم يستمع لما نصحوه به!. وحتى لا أطيل عليكم سأصور لكم بعض النماذج السيئة والنوعيات الخطيرة من هولاء (المدعين) لتتقوهم:
1.مدع يقول للمريض:أن مرضه بالضبط هو ما حصل لفلان، وأن علاجه لم يكن إلا بلحسة عسل جبلي، وحفنة من الحبة السوداء، وجرعة عرق سوس على الريق، وأنه لا داعي لمثل ما يخضع له الآن من معالجة!

2.مدع ثاني يقنع المريض: بأن علته ليست كما قال أطبائه، وأنه قد قراء عن ذلك في الصحيفة، أو تأكد منها من قريب له سافر للعلاج في مستشفى أجنبي.
3.مدع يسأل عن الدواء الذي يتناولة المريض، فيقول له أنه شاهد في القناة الفلانية أن هذا العلاج يسبب أضرارا خطيرة، وأنه يجب عليه الكف عن إستخدامه.
4.مدع يتكلم مع مريض، ويحكي له عن وفاة أحد المرضى بنفس المرض بسبب إهمال أطباء وممرضي المستشفى.
5.مدعي يتكلم عن أخر علاج مخترع قراء عنه، وكيف أنه أسهل إستخداما من الأدوية الحالية، ويطلب من المريض البحث عن الدواء الجديد و(الذي لا زال تحت مراحل الإختبا).
6.مدع يحقر في معالجة طبيب أو مستشفى معين (كان له معه تجربة سيئة) ليثني المريض، ويرعبه.
7.مدع يتكلم بثقة شديدة ويشرح طرق تشخيص بعض الأمراض ومعالجتها حسب قرأته للصحف.
8.مدع يعطي المريض اسم دواء يعتقد أنه مناسبا لحالته، كان قد جربه أو سمع عنه، بل وربما يذهب للصيدلية لصرفه له!.
9.مدع عائد من خارج البلاد يتكلم بتعميم ويحقر جميع ما هو محلي طبيا (فزمار الحي لا يطرب).

إنهم موجودين بيننا وبكثرة، يقابلوننا في كل مجلس، وهم دوما الأصح، وهم الأقوى صوتا وحجة بثقة وقوة عين. وقد يحاولون في بعض الأوقات الإساءة لبعض الاطباء أو المراكز الطبية بتأكيد أن المعلومة قد وصلت لهم من خلالهم.

أطباء نظريون إستشارييون لا تنقصهم إلا الشهادة!. والتي لا يهتمون بها كثيرا لأن قراءاتهم الركيكة، وتتبعهم لما ينشر في الشبكة والصحف والقنوات الفضائية من معلومات إعلانية وفرقعات صحفية وأخبار طبية هي مصادرهم الأكاديمية، التي لا تنضب. ونحن نعلم أن أي علاج مكتشف يحتاج لسنينا طويلة لتجربته أولا في المعامل ثم على الحيوانات، ثم على الإنسان بعد إقراراه من المؤسسات الصحية العلمية العالمية، وقد يثبت وقد لا يثبت جدواه في كثير من الأحيان.

لذلك وجب عليهم جميعا (الصمت)، وأن يتركوا الخبز لخبازه، وأن يتجهوا لما يمكن أن يجيدوه من نقل للأخبار العامة والقصص الفكاهية والأحداث المفجعة. وأن لا يزيدوا مرضانا تشويشا وبلبلة، وأن لا ينشروا بيننا ثقافة دوائية مغلوطة، تدمر المجتمعات، وتخلط الأوراق فلا نعود نعرف من هو الأخصائي، ومن هو المدعي!. ومن واجبنا جميعا التصدي لهم في كل مجلس، وأن نطلب منهم تغيير الموضوع، وعدم قلب الحقائق وتزويرها. لأن ما يقولونه لا يعود على المريض إلا بالتردي والمرض والحيرة. ولا يعود على المجتمعات إلا بطغيان ثقافة التنطع والكذب والخرف وثقافة يقولون!.