ربما الوقوف على تجارب إدارة أقليم كُردستان العراق، و هي، كما هو معلوم، تجارب مُقَسَمة الى حِقَب تاريخية مرتبطة بزمن الكابينات الإدارية للأقليم، هو بحاجة الى التشبث بمقاربات تاريخية و دراسات معمقة إعتماداً على مناهج علمية في البحث التاريخي، و ذلك تجنباً لوقوع المؤرخ أو الدارس في الأمر، في تقييم عشوائي أو تقويم إختزالي أو تخمين سياسي وآيديولوجي، يسبب في تشويه وعي المواطن إزاء تاريخ السلطة الكُردية المعاصر في الأقليم.

و المقاربة التاريخية، أو البحث التاريخي هنا ليس مجرد سرداً للأحداث المفصلية، أو التحولات السياسية الكبرى، أو جمع الوثائق و المواقف فقط، أو رصد ما يُدون في وسائل الإعلام فحسب، و أنما هو قبل أي شيء، النظر و التعمق و الملاحظة في مصادر إنتاج التاريخ نفسه و معالمه، أي البنى الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية و الحضارية و حتى الطبيعية التي يتأثران بها تاريخ الإنسان و المجتمع و يتحركان بل يتطوران وفقاً لقوانينها و جبرياتها.

بمعنى آخر، أن البحث التاريخي في أي تجربة يقوم على دراسة مجالات متعددة، و قد علَّمَنا مدرسة الحوليات الفرنسية في الدراسة التاريخية مواضيع تاريخية جديدة تهم الاقتصاد والمجتمع والسياسة والثقافة والديموغرافيا والعقليات الجماعية وغيرها، و ذلك تجاوزاً لللجوء الى التاريخ التقليدي و عمل المؤرخ التقليدي أيضاً.

كما أن البحث التاريخي في تجارب تاريخية معينة، و نحن الآن بصدد تجربة الحكم في كُردستان العراق، يقوم على دراسة البيئة الظرفية التي توجه كل تجربة في الحكم و تفسر الأسباب الموضوعية وراء مآل و أحوال هذه التجربة. كما أن المنهج التاريخي في دراسة مثل هذه الأمور يمنع أيضاً التأثر بالنزعات و التطلعات الذاتية أو الآمال و الطموحات الآنية و قياس مجريات الماضي عليها، أي فهم الماضي من خلال الحاضر و معاييره، أو قيمه و سياسياته، أو أفكاره و برامجه، أو تطلعاته و تمنياته، أو إمكانياته و طاقاته، و يجعلنا أيضاً أن ننظر الى المواضيع و الأمور و القضايا في ظل شروطها التاريخية و الزمكانية و الإمكانيات المتاحة و القوى الفاعلة في تاريخ ما، فضلاً عن قراءة البنى المُتَحَكِمة بالقرارات و المواقف أو السياسيات و البرامج أو الخطط و الأهداف.

و إذا أخذنا أهمية هذا المنهج في الإعتبار لا سيما أثناء دراسة القضايا و الأمور المتعلقة بالشأن العام حينئذٍ نتجنب التعسف و القسوة بل السذاجة في الحكم على الأمور، بل نقيم كل أمر و نعينه بشروطه التاريخية التي يتفاعل معها. من هنا لا مجال للتقويم الإعتباطي أو التقدير السياسي أو التبسيط الإعلامي في قراءة التجارب التاريخية لإدارة أقليم كُردستان العراق، و لا أعتقد أن هذا من حرفة السياسيين أو الإعلاميين أو الكتاب غير المتخصصين، ذلك لأن عملية أنتاج المعرفة تجاه هذه التجارب وإبداء الرأي بشأنها، أمرين مختلفين تماماً.

بمعنى آخر، أن تقديم وجهة نظر بشأن حقيقة تجربة أقليم كُردستان في الإدارة و الحكم في أية مرحلة من مراحلها التاريخية، لايعني بالضرورة الوصول الى حقيقة هذه التجربة، التي تنفتح على شتى العوامل و المجالات و القضايا و الأمور المعقدة و المختلفة و التي بحاجة الى الدراسة العلمية الدقيقة لفهمها و إنتاج المعرفة بشأنها.

أذكرهذه المسألة النظرية البسيطة و هذه الإشكالية المعرفية هنا لأقطع الطريق وحسب أمام أولئك الذين يحكمون إنتقائياً - خاصة أعداء هذا الشعب في المنطقة- على تجربة الحكم و الإدارة في كُردستان العراق من خلال بعض الأحداث و المواقف الإستثنائية أو الأزمات و المشاكل الداخلية التي لاتخلو أي تجربة في الحكم والإدارة منها، سيما إذا ما كانت هذه التجربة تتطور تدريجياً في ظل مرحلة إنتقالية تاريخية فاصلة ما بين حقبة الإستبداد و حقبة التحول الديموقراطي، أي نحو بناء الديمقراطية و الحكم الذاتي الحقيقي.

كما يهمنا في ذكر هذه الملاحظات النظرية تذكير سذاجة التقويمات السياسية و الإعلامية لتجارب الإدارة في الأقليم عند أولئك الذين يشتغلون، في الداخل، على هذا الأمر بدوافع سياسية، كالتي نجدها، مثلاً، في خطاب أو مواقف قوى المعارضة من السلطة في أقليم كُردستان، أو مواقف و آراء بعض الكتاب و الصحفيين أو السياسيين التابعيين للحزبين الرئيسيين في السلطة إزاء الكابينات الإدارية التي يترأس وزاراتها كل أربعة سنوات أحد الحزبيين الرئيسيين، الأتحاد الوطني و الديمقراطي الكُردستاني، كصيغة توافقية للحكم و كتحصيل حاصل للتحالف الإستراتيجي الذي تم بين الطرفين منذ سنوات.

و عندما نقول هنا سذاجة التقويمات و التقييمات، نعني بها، على وجه التحديد، المقاربات السياسية و الإنتقائية أو الإعلامية و الدعائية التي باتت جزءاً من لعبة الصراع السياسي على السلطة في أقليم كُردستان العراق، حتى و إن كانت، هذه اللعبة، في وجه آخر من وجوهها، تعبيراً عن ممارسات الحياة الديمقراطية التي هي، كما يقول السوسيولوجي الفرنسي، آلان تورين،quot; ليست ساحة هادئةquot;، و لكن دون أن تعني، مقولة كهذه، أن كل ممارسة في ظل الحياة الديمقراطية تكتسب شرعيتها من تلقاء نفسها أو بمجرد رفع شعار الديمقراطية من دون التثقيف بقيمها و مبادئها التي تقوم، بعض منها، على العقلانية و الموضوعية و إحترام القوانين و حقول العلوم و المعرفة و نبذ العنف الرمزي و اللغوي و الفوضى و اللاعقلانية، خاصةً إذا ما عَلِمنا أن الحياة الديمقراطية هي بقدر ما توفر لنا الحريات و الحقوق و إحترام الإختلافات الفكرية و السياسية، تفترض أيضاً، لاسيما مع الولوج في تفاصيلها و أطرها الراقية، ولادة قوى سياسية و إجتماعية متحضرة تقيم الأمور بمنطلقات واعية و علمية و ليست بمقاييس سياسية فقط أو بنزعات سلطوية بحتة.

* رئيس تحرير مجلة ( والابريس/(WALAPRESS ndash; كُردستان العراق