(اذا وقعت واقعة عظيمة، لا تضحك و لا تبكِ ولكن فكّر ) سبينوزا

بحادث مؤسف على الطريق( المعرفي الحضاري) اصطدم عقلنا بشاحنة التأريخ الراجعة الى الوراء وكانت الصدمة من الشدة بحيث انها غيرت اتجاه مركبة عقلنا الى عكس اتجاهه أي جعلته يتجه الى الوراء، ومن جراء تلك الصدمة اصيب عقلنا بأعطاب بليغة، اقعدته عن اغلب فاعلياته وشلّت الكثير من قابليته على التفكير واصيب بنوبات غريبة من الهذيانات والهلوسات مما جعلت الآخرين يسخرون منا، واحدة من هذه الهذيانات، ان عقلنا قرر أن نقاتل حول خبر جاء في صحيفة قديمة جدا يتجاوز عمرها الـ (500) عام، يقول الخبر، ان جماعة من قبيلة (تيهان) سرقوا ناقة لنا، فعلينا ان نبحث في شجرة نسب هذه القبيلة عن كل من له علاقة نسبية بهذه القبيلة المعتدية، فننصب له كمينا ونغتاله بمسدس كاتم للصوت او بعبوبة ناسفة لننسفه هو ومن معه، عقوبة بأثر رجعي، والّا فالعار كل العار سيلحق بنا ان لم نفعل. ومن المصادفات الغريبة ان ورقة منتوفة من مصدر لا يُعرف اسمُه، وقعت بين أيدينا، وقد جاء في هذه الورقة الملعونه، ان احد مشايخ قبيلة ) جهلان) وفي سنة 200 للهجرة شتم ابن شيخ قبيلتنا، فعليه قرر عقلنا المصدوم، ان نشتم كل ابناء تلك العشيرة الماضين منهم والحاضرين والى يوم الدين.

وهكذا بقينا نتجول في اروقة التأريخ واحيانا ندس رؤوسنا بين انقاضه هروبا من الواقع. والعيش بين انقاض التأريخ لا يكلفنا الّا الكلام والصراخ من فوق المنابر، وقد ادمنّا هذا اللون من ( المخدر التأريخي ) فصرنا كلما اوشكت جرعة منه على النفاد اخرجنا من جعبة التأريخ التي نحملها على ظهورنا جرعة اخرى، ولا بد ان يكون عيارها اشد من سابقاتها فهذا هو حال المدمنين.

لا يعني هذا الكلام، اننا نريد ان نتنكر لتأريخنا او ننسفه، فهو الخزين لكثير من التجارب، والمفاصل الحضارية التي شهد لنا بها العالم، كم هو عظيم لو جعلنا هذه التجارب دافعا للانطلاق لا للنوم والسبات. فمعظم شعوب العالم تحترم تأريخها وتستفيد منه ولكنها لا تريد ان تعيش فيه، وهذا ما عبر عنه رئيس وزراء بريطانيا السابق ( توني بلير) حين قال: ( انا أحترم تأريخ بلادي ولكني لا أريد ان اعيش فيه ). يبدو اننا مصابون بـ (النوستاليجيا) وهو (التعلق غير الطبيعي بالماضي والميل اليه) ونتيجة لهذا التعلق المرضي بالتأريخ بقينا نحمل جهلنا المعتق الذي اصبح مضرب مثل ومادة (نموذجية) للتخلف عن الركب الحضاري، وصار اسمنا يتصدر القوائم التي تتكلم عن الأمية والخرافة والمرض. فحسب المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم ( ALECSO ) ان أربعة اشخاص أميين من بين عشرة اشخاص من العرب، وحسب هذه المنظمة فان اعداد الأميين في الوطن العربي احيانا في تزايد، حيث كان عدد الاميين سنة (1970)، (50) مليون، وفي عام (1990) اصبح عددهم (61) مليون امي. وهكذا تجري التطورات المخيفة علما ان شيئا من التقدم حصل في السنوات الاخيرة في محو الامية، واذا ما استمرت الدول العربية على نفس التقدم في مكافحة الامية فأنها تحتاج الى ( 7، 25) سنة لكي تقضي على أمية الحرف (امية القراءة والكتابة ) فقط، رغم ظهور تعريف جديد للأمية حالياً، وهو: عدم الإلمام بأحدى لغات الحاسوب (الكومبيوتر). وليس القراءة والكتابة فقط، ولا ندري ماذا سيكون تعريف الأمية بعد ( 7، 25 ) سنة وحسب الاحصاءات الصادرة من منظمة UNESCO)) ومنظمة التنمية التابعة للامم المتحدة ( UNDP ) تشير الى تدهور خطير في معدل القراءة لدى العرب بشكل عام، بحيث ان الخط البياني الهابط يكاد يصل الى اوطأ مستوى في العالم اجمع، فالفرد العربي يقرأ بما لا يزيد عن (6) ست دقائق في السنة، وبمعدل كتاب واحد لاكثر من ( 000، 300 ) شخص في المنطقة العربية. واما عن عالم الكتب المترجمة فيصيب كل (مليون عربي) 4.4 كتاب، بينما يبلغ نصيب كل ( مليون اسرائيلي ) (380) كتابا، ونصيب كل (مليون هنغاري) (500) كتابا، وحصة كل ( مليون اسباني) (950) كتابا. وان ما تستهلكه دار نشر فرنسية واحدة، وهي (دار باليمار) من الورق يفوق ما تستهلكه مطابع العرب مجتمعة من المحيط الى الخليج.

اما عن التطور الصناعي وعالم الاختراعات، فليس هناك احيانا مجال للمقارنة. فجمهورية مصر العربية بدأت بالتصنيع في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، وبنفس هذا التأريخ بدات كوريا الجنوبية تدخل عالم الصناعة والاختراعات، والفرق بين الدولتين لا يحتاج الى بيان، وهذه اسرائيل عدد الاختراعات السنوية فيها قرابة (500) اختراع، وعدد الإختراعات في الدول العربية مجتمعة لا يتعدى ( 25) اختراعاً. ارجو ان لا يفهم هذا من باب جلد الذات ونشر صورة سوداوية لواقعنا. كم اتمنى ان تكون هذه الأرقام التي تعود علينا غير صحيحة، ولكن التمني وحده لا يكفي، هذا اولا، والامر الثاني، هو، علينا ان نرى واقعنا كما هو ولا نحاول الهرب، وتأخذنا العزة بالنفس، فنغمض اعيننا عما نحن فيه. فمهاتير محمد، مؤسس (ماليزيا الحديثة) رفع شعار: (اليابان معلّماً) ولم يجد في ذلك غضاضة. مشكلتنا اننا صرنا كلما شعرنا بالهوة الحضارية تتسع بيننا وبين الآخرين، تمركزت فينا الذهنية الهروبية نحو الماضي من دون تمحيص، حتى صرنا نشرب بول البعير لأن التأريخ يسرد لنا قصة، وقصص التأريخ عندنا (مقدسة)، برئ منها من نسبت اليه، ان في بول البعير شفاء من كثير من الامراض الخطيرة، حتى وصل سعر الزجاجة الواحدة سعة 75، 0 لتر ( 4دولار امريكي). علما ان بعض الطلبة الجامعيين لا يفوّتون هذه البركة، رغم تصريحات الأطباء بانه لا يوجد اي دليل علمي على صحة هذه المقولات، بل ان هذا البول يحتوي على مواد ضارة وجراثيم وعندما تنتقل الى الجسم فإنها تسبب (الحمى المالطية) وهي حمى خطيرة تؤثر على الجهاز العصبي والبولي والكبد والطحال. اضافة الى ذلك قال رئيس قسم الدراسات الإسلامية في احدى الجامعات: ان هذه الأشياء خرافة ونوع من الدجل والشعوذة، استغلت لأغراض تجارية والاستناد إلى أحاديث في هذا الجانب دجل quot;.وأضاف:quot; إن ما لا يصدقه العقل لا يمكن أن يكون حديثا نبوياً. ولكن يبقى ( التأريخ) الذي تمترسنا به اصدق أنباء من العقل في حده الحد بين الجد واللعب. ووصل الأمر بنا صرنا نطلب المستقبل بعقلية الخوارق، لا كما تفعل الشعوب التي تحترم نفسها، حيث تكافح وتعمل ليل نهار من اجل مستقبل افضل. مستقبلنا نحن ياتينا جاهزاً ومحسناً على كف عفريت، لأننا ما زلنا نبحث في الرمال عن ( مصباح علاء الدين) السحري، او نبحث عنه في قعر( فنجان قهوة ) ينتظر (العرّافة) تفك طلاسمه فيصبح مستقبلنا حينها بين ايدينا ملطخاً بثمالة القهوة.