من يتتبع الأحداث الطائفية التي تجري في مصر هذه الأيام لابد وأن يعود بذاكرته إلى أيام سبعينيات القرن الماضي وأوائل ثمانينياته حيث الأجواء المتوترة والمحتقنة والمشحونة بمشاعر الكراهية والتعصب والرفض للأخر. حفل عقد السبعينيات بحملات ضخمة ضد المسيحيين والوجود المسيحي في مصر استهدفت ترهيبهم وترويعهم. لم تستند هذه الحملات على وقائع صحيحة صادقة، ولكنها استندت على شائعات كاذبة واتهامات باطلة ضد المسيحيين من عينة السعي لإقامة دولة مسيحية فوق أرض مصر، والتسلح بغرض قتال المسلمين، وعدم خضوع الكنيسة للقوانين الإسلامية، والتقوي بقوى خارجية، والقيام بنهضة مسيحية كنسية متطرفة، واستفزاز المسلمين بدق أجراس الكنائس وووضع الصلبان فوق أبراجها، وغيرها من الاتهامات التي لا تعكس إلا حماقة مروجيها وضعف القوى العقلية لمصدقيها. انتشرت الشائعات المناهضة للمسيحية في السبعينيات كانتشار النار في الهشيم، وأصبح المسيحيون في موقف لا يحسدون عليه من شدة الاضطهاد الذي طال ممتلكاتهم وأعمالهم ومصادر رزقهم ورموزهم ودور عباداتهم.
شجع نظام الرئيس السادات الإسلاميين المتطرفين في مطلع السبعينيات وواستعان بهم للقضاء أيديولوحياً واجتماعياً على التوجه الاشتراكي الناصري الذي كان سائداً عندئذ. لم يتصد السادات للمتطرفين حين بدأوا في نشر أفكارهم المتطرفة في المساجد والزوايا، ولم يعاقبهم على جرائمهم الكثيرة بحق المسيحيين التي بدأت بجريمة الخانكة الشهيرة عام 1972 وامتدت حتى أحداث الزاوية الحمراء عام 1981. بلغت ذروة الاحتقان الطائفي في مصر في السبعينيات حين اختلف الرئيس السادات مع البابا شنوده بشأن تطبيق مباديء الشريعة الإسلامية على المسيحيين، وهو الخلاف الذي ارتفعت معه أسهم البابا شنوده بصورة غير مسبوقة بين رعيته، ما أدى إلى نزوع السادات إلى شن حملات إعلامية شرسة على البابا والكنيسة وكذا إطلاق يد الإسلاميين المتطرفين تطبيق شريعتهم في مناطق ومدن بأكملها حتى باتوا قوة موازية لسلطة الدولة.
ما أشبه اليوم بالبارحة. الوجوه فقط تغيرت وبقيت السياسات الخاطئة التي تشجع الإسلاميين المتطرفين، وبقيت الأفكار المتطرفة، وبقيت الأعمال الإرهابية ضد المسيحيين. ذهب الشيوخ الشعراوي والغزالي وكشك والتلمساني وجاء الدعاة زغلول النجار ومحمد عمارة وسليم العوا وجبهة علماء الأزهر وغيرهم. وبالمثل غاب نظام الرئس السادات وجاء نظام الرئيس مبارك الذي حاول مواجهة الإرهابيين في الثمانينيات وحتى عام 1997 ولكنه فشل في القضاء عليهم فلجأ إلى سياسة quot;ساعدني على الاستمرار أساعدك على الازدهارquot; التي سمحت للإسلاميين بالعودة للعمل علناً في مقابل عدم تحدي النظام الحاكم عن طريق التوقف عن ارتكاب أعمال تهدد النظام الحاكم أو تعرضه للحرج مثل استهداف رموزه والتعرض للسائحين الأجانب.
طوال عقد الثمانينيات وحتى عام 1997 كان المسيحيون هدفاً رئيسياً للإرهابيين في مصر، ولكن شعبية الإسلامين بين المصريين المسلمين عندئذ شهدت تدهوراً شديداً لأن المصريين المسلمين والمسيحيين على السواء تذوقوا مرارة الإرهاب الذي راح ضحيته المئات من الأبرياء. ولكن كانت مذبحة الأقصر الإرهابية عام 1997 التي راح ضحيتها عشرات من السائحين الأجانب نقطة تحول كبرى في تاريخ الإسلاميين في مصر وفي علاقاتهم بالدولة وبالمصريين. غيرت المعادلة التي نجح النظام المصري في إجرائها مع الإسلاميين والتي توقفت على أساسها المواجهة بين الطرفين من أسلوب تعاطي الإسلاميين مع الأمور. نجح الإسلاميون مع الحرية التي اعطيت لهم في اختراق المصريين وتوسيع قاعدتهم في كافة المحافظات والمدن والقرى والنجوع المصرية، حتى أصبح التطرف ضيفاً على مئات الألاف من الأسر والعائلات. ومنذ ذاك الحين تحول الإرهاب ضد المسيحيين من بندقية مصوبة ضدهم أو قنبلة متفجرة في كنائسهم إلى جهاد يومي يخوضه الملايين من الإسلاميين الجدد ضد المسيحيين في كل أنحاء مصر.
كان التعرض للمسيحية والمسيحيين والقيادات الكنسية بالشكل الذي رأيناه وسمعناه في المظاهرات الحاشدة التي شهدتها القاهرة والإسكندرية في الأسابيع الماضية مظهراً من مظاهر الجهاد الذي يمارسه الإسلاميون الجدد ضد المسيحيين في مصر. أعادت المظاهرات إلى الذاكرة مظاهر استعراض القوة التي كان الإسلاميون يظهرونها طوال عقد السبعينيات. كانت مهاجمة البابا شنوده بوقاحة منقطعة النظير والهتاف بضرورة عزله من منصبه البابوي هي نفسها الشعارات التي كان إسلاميو وسياسيو السبعينيات يرددونها طوال سنوات هذا العقد المشئوم. بالمثل كانت مطالبة المتظاهرين بتفتيش الأديرة وفرض رقابة على الكنائس لا تختلف عن الدعاوى التي ملأ بها الإسلاميون الدنيا ضجيجاً في السبعينيات. أما التهديد والوعيد بتحجيم المسيحيين وبسفك دمائهم وبمقاطعتهم اقتصادياً فكلها أمور أعادت مصر بالفعل ثلاثة عقود إلى الوراء.
الأسباب التي تقوم بسببها المظاهرات ما هي إلا أكاذيب وشائعات أطلقها خبثاء يريدون أن يشعلوا مصر كما رددت المظاهرات، إذ أن كل تحركات الإسلاميين المشبوهة تهدف بالأساس إلى ممارسة المزيد من الضغوط على الكنيسة وإجبارها على عدم المطالبة بحماية أبنائها وبناتها من مخططات الأسلمة. وإلا فهل من يصدق أن الأقلية المسيحية أصبحت تضطهد الأغلبية المسلمة؟ وهل من يصدق أن الكنائس والأديرة التي لا يسمح فيها ببناء أو ترميم دورات المياة أصبحت مخازن للأسلحة والزخيرة؟ وهل من يصدق أن المسيحيين الذين يتعرضون لمخططات أسلمة تقودها وتمولها مؤسسات إسلامية في مصر والخارج قادرون على اختطاف مسلمات كما يدعي المتظاهرون؟ وإذا كان المسيحيون قادرين على اضطهاد المسلمين، فلماذا هم عاجزون عن التمثيل في البرلمان ومؤسسات الدولة الحيوية؟ وإذا كان المسيحيون قادرين على تخزين الأسلحة في الأديرة، فلماذا لا يستخدمونها في الدفاع عن أنفسهم؟ وإذا كان المسيحيون قادرين على اختطاف المسلمات، فلماذا يروج الإسلاميون لكل هذه الأعداد الكبيرة من المتحولين للإسلام؟
إن المظاهرات الحاشدة التي شهدتها القاهرة والإسكندرية في الأسابيع الماضية لهي دليل جديد على الكراهية التي تملأ قلوب الإسلاميين المتطرفين، وربما أضحت التجاوزات الوضيعة والسفاهات القبيحة التي تضمنتها المظاهرات السمة التي ستسود في مصر في الفترة المقبلة التي أراها قاتمة وكئيبة. التهديدات التي أطلقها الإسلاميون ضد المسيحيين والسباب الذي نعتوا به رمزاً مسيحياً كبيراً كالبابا شنوده كانت لتعرضهم للمساءلة القانونية في أي بلد تحكمه سيادة القانون. ولكن الإرهابيين يستغلون غياب القانون عن مصر ويستغلون أيضاً رغبة النظام الحاكم في عدم مواجهتهم وعدم تغيير المعادلة التي أوجدها معهم قبل ثلاثة عشر عاماً. ولكن ليعي المسئولون المصريون أنهم إذا أعادوا حقبة السبعينيات بكل مظاهر الاضطاد التي تعرض لها المسيحيين عندئذ فلست أعتقد بأن الإسلاميين سيقبلون بنهاية للنظام الحالي تختلف كثيراً عن نهاية النظام السابق. لقد علمنا التاريخ أن لا أمان للإسلاميين الذين قد يرضون مؤقتاً بدور ثانوي،و لكنهم لن برضوا على المدى الطويل بأقل من حكم مصر. أنقذوا مصر يا سادة مما يخبئه لها الإسلاميون المتطرفون.
Twitter: @JosephBishara
التعليقات