تدور رحى نقاشات في الساحة العربية، حول العلمانية والإسلام والإسلام السياسي، هذه الحوارات برأيي المتواضع كانت تجري انزياحا، حقيقيا عن لب المشكلة في العالم العربي، والتي تتمحور حول عدم التأسيس لإشكالية الحرية والدولة في العالم العربي.

زادت وتيرة النقاشات هذه بعد ما فرضت التجربة التركية بتحولاتها العميقة نفسها على العالم العربي، بمشترك أنها دولة الغالبية العظمى من سكانها يدينون بالإسلام. وآخر ما قرأت هو رد الكاتب المصري ممدوح الشيخ في مقالتهquot; بل خسر العلمانيون وخسرت العلمانية أيضاً!quot; صحيفة الحياة، 28 سبتمبر 2010 على الباحث السوري ياسين الحاج صالح في مقالتهquot; خسر العلمانيون وفازت العلمانيةquot; 19.09.2010 والتي يتناول فيها سياق الاستفتاء التركي الأخير على تعديلات دستورية، أعادت العسكر إلى ثكناتهم، ورفعت يدهم عن التدخل بالشأن السياسي.

الكاتب ممدوح الشيخ يرتكب مجموعة من المغالطات التاريخية والراهنة في رده على ياسين، منها أنه يعتبر أن كل العلمانية الأوروبية علمانية صلبة واستئصالية، بينما العلمانية الأميركية علمانية لينة، يستخدم بالطبع كرد مفردات ياسين المفاهيمية، ولكوننا لا نجد أن موضوع ردنا هنا هو المحاججة حول تاريخ العلمانية، بل القصد منه القول: أن وفقا لمنطق الكاتب لا يوجد علمانية صلبة في أوروبا إلا في فرنسا، ولتاريخية المسألة فإن الملكية الفرنسية بالذات كانت بخلاف بقية الملكيات الأوروبية، ذات موقف أكثر استقلالية من الكنيسة، وهذا يؤكد أن لكل دولة تجربتها الخاصة والتعميم هنا أوروبيا غير صحيح، والأكثر غير صحة، هو إعادة منع النقاب والمآذن، والحملة على الحجاب في فرنسا، إلى تلك العلمانية الصلبة، لم يفكر أحد من الساسة في أوروبا بقضية العلمانية لا في سويسرا التي منعت المآذن- كنت قد تعرضت لهذا الأمر في مقالين منفصلين، ولا في بلجيكا التي منعت النقاب ولا في فرنسا، بل التفكير له علاقة مباشرة بسياسات النخب في تلك البلاد، وبمطارحات وأهداف سياسية العلمانية آخر همها، بعد موضوع الهجرة والاندماج وقضايا أخرى، وإن كان هنالك من فكر من النخب بقضية من القضايا التي يمكن أن نتداولها نحن، فهي قضية الحرية وحقوق المرأة، أما قضية العلمانية فهي تشدقات خرجت من بعض المنابر الفرنسية فقط، ولأهداف سياسية مباشرة.

نأتي الآن إلى التجربة التركية، بداية أنا أوافق ياسين في قولهquot;laquo;في الواقع مختلفون ومتنوعون، يشبهون مجتمعاتهم وبيئاتهم أكثر مما يشبهون أصلاً عقدياً مشتركاً ينتسبون إليهraquo;. التي يرد عليها الشيخ بأنها غير صحيحة، والاختلاف يعود بشكل رئيسي إلى تبني تركيا النموذج الأمريكي للعلمانية بينما النخب العربية تبنت العلمانية الأوروبية الاستئصالية، وبذلك نشأ الخلاف بين الإسلامين العربي والتركي، بينما تاريخ الأتاتوركية يشير بغير ذلك، مع هذا تركيا ليس منشأها مدولن عبر تأسيس في مرحلة الاستعمار التقليدي، تركيا انتقلت سلميا من دولة الاستبداد إلى دولة مقلدة للنموذج الأوروبي القائم آنذاك وبالأخص الفرنسي، ولأن خصمها الداخلي كان يتمحور حول دولة الخلافة العثمانية بما له من دلالة دينية! لهذا ظهرت علمانية أتاتورك بوصفها علمانية استئصالية!

ثمة مغالطة أخرى، وفقا للسياق والمعنى واللفظ والممارسة التاريخية، العلمانية التركية أكثر عقلانية من العلمانية المستوردة عربيا! أو التي تبنتها النخب العربية، وهذا غير صحيح أيضا، لأن النخب العربية وخاصة الحاكم منها، باستثناء التجربة التونسية- بوروقيبة- كانت علمانيات زبائنية أكثر منها مؤسساتية، بمعنى تتحرك وفق واقع نخب الحكم، بدون حماية قانونية كبقية تحرك هذه النخب بكل المجتمعات العربية، لهذا بدت هذه العلمانية العربية الزبائنية، أقل تشددا مع التمثيلات الإسلامية وثقافتها سواء منها الاهلي أو السياسي وأقل تدخلا بما لايقاس مع التجربة التركية، ودخلت معها في مساومات تختلف من بلد عربي لآخر.

أما النخب التي بقيت خارج الحكم، فكانت حتى عقدين من الزمن، آخر همها قضية العلمانية، لأنها كانت قضية ملحقة بالقضية الأساس التحرر من الاستعمار الجديد بكل أشكاله وملحقاته في المنطقة من أنظمة وأحلاف. السبعينيات والثمنانينيات، كانت ثنائيةquot; الاستقلال/ التبعيةquot; تسيطر على النخب اليسارية والقومية.

وإذا كان في النهاية المقصود هو الخلاف التاريخي بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والأخوان المسلمين، فلم يكن الخلاف لأن عبد الناصر علماني استئصالي مطلقا، بل كان الخلاف على السلطة السياسية، ولهذا طال القمع الشيوعيين مثلما طال الأخوان المسلمين.

العلمانية الاستئصالية هي اختراع الإسلام السياسي الراهن و في العقدين الأخيرين، وتولت نخب تدعي العلمانية تسهيل تداول هذا المعنى عربيا، من خلال تبنيها للوجه الاستئصالي الآخر وتحويل العلمانية إلى جهادية بالمقلوب، وبذلك اتفق الطرفان على دفن إشكالية الحرية في العالم العربي، من خلال فتح المعركة حول بعض الحريات الفردية، تحت شعار مدرسي للعلمانية وهوquot; فصل الدين عن السياسةquot;، والطرفان في الواقع كل منهما يحاول استمالة نخب الحكم العسكرية والأمنية حتى! لصالحه في هذه المعركة، التي لم يستفد ولن يستفيد منها المجتمع، بل تستفيد منها نخب الحكم.

لهذا لم تكن المعركة في تركيا بين العلمانيين والإسلاميين، والتصويت الأخير لم يأتي في هذا السياق، هذا تصوير استخدمته بعض النخب التركية، والأوروبية من أجل عرقلة المشروع التركي، والذي يعيد ترتيب أولوياته وانخراطه في العالم بعد انهيار المعسكر الشرقي، وتراجع الدور الوظيفي للمؤسسة العسكرية التركية. في هذا الإطار يمكن فهم تداول العلمانية الجهادية لما يحدث في تركيا، وبالمقابل يتعاطى مع نفس المنطق الإسلاميون العرب، أن ما يجري في تركيا هو معركة بين العلمانية وبين الإسلامية، وهذا منافي للحقيقة، وعلى كافة الصعد التركية داخليا إقليميا ودوليا.

الذي نجح في تركيا هو إعادة مأسسة دولة القانون والحريات العامة والفردية، وفصل السلطات، وكتعبير عن عدم الحاجة لمظلة من الجنرالات الفاسدين، بحجة حماية تركيا من اليسار ومن موسكو ومن أعداء الأتاتوركية القومية العلمانية! والتي تعبر عن نفس قومي أكثر مما تعبر عن اهتمام علماني، وهنا اختلف مع ياسين أيضا، بأن العسكر التركي لم يكن يقيم وزنا لتعريف علمانيته أبدا، وإنما الذي جرى في العقدين الأخيرين، وجد العسكر التركي نفسه بلا وظيفة خارج ثكناته، ولم يعد للفومية الأتاتوركية قدرة على أن تكون أيديولوجيا تستمر من خلالها في السيطرة على الدولة، ولهذا لجأت إلى قضية العلمانية لاستدرار عطف النخب الغربية، وهذه أيضا لم تعد تفيدها في شيء.

ما يجري الآن من مأسسة اكثر عمقا للحرية في المجتمع التركي تتوافق مع المستجدات التركية على كافة الصعد يحتاج إلى إعادة مأسسة مجتمع الحريات العامة والفردية، وهنا بيت القصيد، نعم فازت العلمانية لأنها أصلا قضية ملحقة بالحرية، وليست مفصولة عنها، لأن غليان المجتمع التركي في الواقع كان من أجل تركيا أكثر عصرية، وأكثر قوة واكثر حرية تجاه النظام الدولي الجديد.
أوليست العصرنة تعريفا أكثر دقة للعلمانية؟

غسان المفلح