علمنا التـاريخ البشري الطويل أن القيادة تـُولد مع الفرد، لا تؤخذ ولا تـُعطى. وأغلب عظماء التاريخ، الأخيار منهم والأشرار معا، وُهبوا تلك القدرة السحرية على الهيمنة على الجموع، والتأثير فيها، وصياغة أفكارها ومبادئها وأحلامها وشحنها بالأمل، وتحريكها في نظام دقيق باتجاه الهدف. ومنهم من رفع شعبه إلى العُلى، ومنهم من نزل به أسفل سافلين.

والقائد لا َيفتعل القيادة، لأنها جزء من نفسه وكيانه، تجري مع دمه في عروقه، وتطل من لغته وحركاته وقراراته، بتلقائية خالصة.
وليس بقائدٍ من يأتي بالغش أو بقوة المال أو بالسيف والساطور، بل هو الذي يرفعه على الأعناق حبُه لأهله، وحبُهم له، دون قهر ولا جبروت.
ومشكلتنا في العراق اليوم هي أننا بلا قادة، من أي نوع. ومرة أخرى لولا أمريكا وفعلتـُها الناقصة لما شمَّ أحدٌ من هؤلاء رائحة القصر الجمهوري، ولا سار بجانب حائط البرلمان. لدينا ساسة بلا لون ولا طعم ولا رائحة، ولدوا وترعرعوا في دهاليز أحزاب المعارضة السابقة، وعلى عطايا دول الضيافة، وأفضال ِ مخابراتها.

فلو كان لعرب العراق، شيعة ً وسنة، كما للكورد، قيادة ٌ واحدة محترمة ومعترف بها من فئات الطائفة، بجميع مناطقها وتياراتها السياسية والفكرية والعقائدية والاقتصادية، لتغير وجه العراق الجديد بلا شك، ولتشكلت الحكومة في أسابيع، ولعاد العراقيون إلى أعمالهم الاعتيادية بسرعة، ولسارت الأمور في طريقها الطبيعي، نحو الأمن والأمان، ولاندفع الجميع نحو إعادة الإعمار والبناء والسلام.

وأعلم بأنني سأغضب بعض أصدقائي السياسيين، ولكن لابد من القول هنا إن السنة العرب العراقيين بلا زعيم. فعلى الجاني الأول نجد أن صالح المطلق، مثلا، وهو إبن الأنبار، غير محبوب ولا مطاع في تكريت وسامراء والموصل. والهاشمي الذي جاء على ظهر الحزب الإسلامي، خلفا لرئيس الحزب السابق عضو مجلس الحكم المنحل محسن عبد الحميد، وضمن نصيب جبهة التوافق في المحاصصة، وجد نفسه، مصادفة، نائبَ رئيس جمهورية، له ما لهذا المنصب من حلاوة وبريق. مع العلم بأنه، حتى بعد أن انقلب على حزبه وخرج منه لم يتطوع بمغادرة الكرسي ليخلفه عليه من يرشحه الحزب أو الجبهة أو الطائفة، باعتبار أن المنصب لم يُمنح لشخصه ولا لمواهبه القيادية، ولا حتى لحزبه الإسلامي، بل للطائفة كلها. وهو، بهذه الصيغة، أحد اللاصقين بالكراسي، بفضل حالة الخلخلة التي تعيشها الدولة، وليس زعيما شعبيا يمثل طائفته، ولن يكون. والسيدان الآخران، أثيل النجيفي وأسامة، لو لم يركبا موجة عروبة الموصل، ويَشهَرا سيوف معاداة البيشمركة، لما وجدا نفسيهما زعيمين، في الموصل وحدها، وليس في غيرها، وإلى حين.

وبسبب فقر الطائفة السنية إلى قيادة مقنعة وقادرة على تمثيلها وانتزاع حصتها من كعكعكة المحاصصة، وجد زعماءؤها الذين جاؤوا بالمصادفة، أنهم في حاجة ماسة إلى استيراد قيادة من خارج الطائفة، فعمدوا إلى تنصيب أياد علاوي زعيما لقائمتهم العراقية، ليقودهم نحو النصر، بما له من خبرة وعلاقات مع قوى داخلية مهمة كحزب البعث، وخارجية بمخابرات عربية وأجنبية لا يُشك في كرمها الباذخ، ولا في دعمها الإعلامي والسياسي غير المحدود.

ولا نقاش في أن هذا الفراغ في القيادة أضعف قوة الطائفة السنية، كثيرا، وجعل السياسيين الشيعة يستهينون بممثليها، ويعتبرونهم مجرد وكلاء لقوى إقليمية عربية سنية، مستأجرين لخدمتها، مرحليا، في صراعها مع النفوذ الإيراني في العراق والمنطقة. بل دفع ببعض هؤلاء إلى منافسة أصحاب (العراقية) في الهرولة إلى العواصم العربية، والمزايدة في تقديم آيات الولاء والطاعة. وهو أرذلُ العُمُر السياسي العراقي الطويل.

بالمقابل، نحن الكتاب العراقيين المحايدين، فوجئنا بأن الطائفة الشيعية العراقية لا تقل عن الطائفة السنية تمزقا وتشرذما واحترابا على المصالح والكراسي. الأمر الذي دفع بالشيخ عبد المهدي الكربلائي ممثل المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني إلى الشكوى من لجوء السياسيين العراقيين إلى دول الجوار بحثاً عن التفاهم لحل مشاكلهم، والإتفاق على الحكومة المقبلة. وطالبهم بالتحاور والإتفاق في بلدهم الذي وصفه بأنه خيمة الجميع وبيتـُهم المشترك، ودعاهم الى تنظيم صلاحيات رئاسة الحكومة، لتجنب ما حصل خلال الفترة الماضية من انفراد او استبداد او تحكم بالسلطة، على حد تعبيره.

وكنا نظن أن هذه الطائفة متماسكة ومتوازنة، تلمُها عباءة واحدة هي عباءة مرجعية السيد السيستاني، وترسم جميع خطواتها الاستراتيجية والتكتيكية معا، ولا تترك لأتباعها ومقلديها سوى حرية التفنن في الإنجاز، وفي طرق تنفيذ الخطط المرسومة، دون زيادة ولا نقصان.

وكنا نظن، أيضا، أن الطائفة الشيعية العربية العراقية، جميعَها، منخرطة في طاعة دولة الولي الفقيه، وخاضعة بالكامل لمخابراتها ولحرسها الثوري وطوابيرها الخامسة، وأن السيد الحاكم في طهران أو في قم هو الذي يقرر للشيعة العرب العراقيين حياتهم، ويحدد تحركاتهم، ويرفع من يحبُ من زعمائهم، ويضع من لا يحب، ويعطي الملك العراقي من يشاء، ويأخذه ممن يشاء.

ثم ظهر بطلان ذلك الظن. فقد ثبت بالدليل القاطع أن في شيعة العراق شرائحَ واسعة لم يخدش وطنيتـَها الصادقة خادش، لا من قريب ولا من بعيد.
فلا المرجعية ولا طهران ولا قم تملك العصا السحرية التي تأمر فتطاع من قبل جميع الشيعة في العراق. بل أكثر من ذلك. لم يعد لأي ٍ من هذه الجهات الثلاث سلطة حتى على أبنائها السياسيين، أصحاب الأحزاب والتجمعات والتنظيمات والمليشيات التي ولدت وترعرعت وشاخت على يديها، ومن بركاتها.

فها هو ممثل المرجعية الشيخ عبد المهدي الكربلائي نفسُه، وعلى رؤوس الأشهاد، يشكو بمرارة من صراعاتهم الشخصية وأخبار فساد بعضهم التي أصبحت عبئا على الطائفة، وشوهت سمعة المرجعية، وأشاعت لدى الناس، في الداخل والخارج معا، فكرة أن شيعة العراق لا يصلحون للسلطة، وأن حكمهم لا يقل ظلما وعدوانا وفسادا عن النظام السابق الذي اتهموه بالطائفية والظلم والفساد، وعملوا بكل وسيلة على إسقاطه، زاعمين أنهم سيقيمون على أنقاضه نظاما بديلا إسلاميا عادلا ورحيما يسعى لمرضاة الله وحده، وليس لمرضاة الأحبة والأقارب والحبايب.

ورغم كل الضغوط التي مارستها دولة الولي الفقيه لفرض المالكي رئيسا للوزراء لدورة أخرى شق عصا طاعتها في هذا الأمر كلٌ من عمار الحكيم وإبراهيم الجعفري وأحمد الجلبي وعادل عبد المهدي وباقر صولاغ، وتبعَهم (الفضيليون)، ثم تمرد عليها منتسبو منظمة بدر، حتى أحرجوا رئيسَهم هادي العامري الذي نفذ تعليمات طهران وحضر حفل ترشيح المالكي، بالرغم من معارضة ائتلافه الوطني ومجلسه الأعلى الذي ينتمي إليه ويتسلم منه رواتب ضباطه ومقاتليه.

فمن حق المرجعية، والحالة هذه، أن تشعر بالحزن. ومن حقنا نحن أيضا أن نختنق بهذه الخلافات والتشققات والمشاكسات والمماحكات البغيضة السخيفة التي لم يعد أحد من العراقيين، لا العرب الشيعة ولا العرب السنة ولا الأكراد، يتحملها ويتحمل انعكاساتها وتأثيراتها الضارة على الوطن وأهله أجمعين.
ويشارك شيعة ُُالعراق ُسنتـَه بنفس العلة المزمنة، وهي الزعامة الطارئة الآتية مع الدبابات الأمريكية، وضمن لعبة المحاصصة المقيتة.

فليس في شيعة العراق كلهم قائد يفرض زعامته على الجميع، بالحكمة والنزاهة والاستقامة والرجولة والأصالة. وطبيعي أن يغري هذا الوضع الشاذ كثيرين غيرَ المالكي والجعفري وعادل عبد المهدي وباقر صولاغ من رؤساء وقادة أحزاب المحاصصة والمصادفة، بطلب السيادة، والطموح إلى الرئاسة، حتى صار لدينا مئات الزعماء وألوف الرؤساء، وهذا ما أغرق الوطن في هذه الورطة الموحلة.

بالمقابل يقف الكورد العراقيون قبضة ًواحدة متماسكة في مواجهة العرب المتشرذمين في المنطقة الخضراء، يتكلمون بصوت واحد، ويحلمون بشيء واحد كذلك، رغم ما يبدو على سطحهم من خلافات وتململات لا تتعدى خلاف أبناء البيت الواحد. فهم جميعا ملتزمون، وحتى النـَفَس الأخير، بمطالب عليا محددة مقننة لن يمنحوا أصواتهم إلا لمن يؤيدها، ويقر بتنفيذها، كتابة ً وليس مشافهة. فهم تعلموا من الماضي، ولن يلدغوا من جحر العرب العراقيين مرتين.

ومهما يكن الرأي في تلك المطالب ومشروعيتها، ففي دولةٍ ممزقة ومنهوبة ومنخورة، من رأسها إلى أساسها، يصبح عاديا وطبيعيا أن يحاول كائنٌ من كان من أهلها أن ينتزع أقصى ما يستطيع انتزاعَه من هذه الدار الآيلة للسقوط، وقبل فوات الأوان.

هذا وضع شاذ وغير طبيعي. ولم يقل التاريخ إن الزمن طال به وبأمثاله إلا أقل من القليل. فهو ورجالُه إلى زوال، ولابد لهذه الأرض الولود أن تُخرج من أبنائها عن قريب ذلك القائد الواحد الذي ينبض زعامة ويقطر شهامة، يلم ولا يفرق، يعدل ولا يجور، وستصبح هذه الغمامة ذكرى عابرة، كما مر غيرُها من غيوم.