ما يجري في الكويت يؤكد حقيقة أن الديمقراطية إذا تمت في ظل تقديس القبيلة والطائفة فإنها تكرسهما، وتلقي بالمجتمع في أتون الصراع وربما الحرب الأهلية. لبنان هي المثال الأوضح لهذه الحقيقة، فقد كانت ديمقراطيتها تقوم على تقاسم النفوذ بين الطوائف، فانتهت بها إلى حروب أهلية لا تكاد تهدأ حتى تشتعل ثانية؛ وهاهي حرب أهلية جديدة تكاد أن تقوم في أي لحظة. العراق أيضاً مثالاً آخر؛ فالطائفية والقبلية وكذلك الإثنية تسعى بهذا البلد إلى التشظي، ولم تستطع حتى الولايات والمتحدة ومعها الاتحاد الأوربي من فرض الوحدة العراقية في ظل ديمقراطية الطوائف والقبائل والإثنيات؛ فها هو العراق يسعى بخطوات حثيثة نحو التفتت رغم أنف الجميع.
الكويت تجربة ديمقراطية فريدة. فهي نصف ديمقراطية، ونصف ملكية شمولية، ونصف حضر، ونصف قبائل بدوية، وثلاثة أرباعها سنة والباقي شيعة؛ هذه التركيبة الغريبة العجيبة غير المتجانسة هي الكويت الآن في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. أهمية الكويت تكمن في أنها كانت مدينة تحولت أو حولها النفط إلى شبه دولة. في السابق كانت الكويت تتكون من أسر تجارية وغواصين يبحثون عن اللؤلؤ؛ كانت حتى منتصف الخمسينات من القرن الماضي ميناء وسط الجزيرة وبالذات البضائع القادمة من الهند وإيران، وكانت أغلب البضائع القادمة لتلك الأصقاع من تلك البلدان تمر عبر الكويت؛ ولما تدفق النفط غزاها البدو والقرويون من وسط الجزيرة وكذلك من العراق، إضافة إلى بعض الشيعة العرب الذين أتوا إليها واستوطنوها قادمين من ألأهواز. كانت الأسر الكويتية التجارية العريقة، وكذلك أسرة الصباح، يُسيطرون سيطرة شبه تامة على السلطة والثروة. وازدادت هذه الأسر ثراء بعد تدفق النفط. الأسر والقبائل التي استوطنت الكويت قادمة من خارجها كانت في البداية راضية بما اكتسبت من ثروة وعيش رغيد، فلم يكن لمن قدموا في البداية إلى الكويت واستوطنوا فيها أي طموح سياسي غير الدخل الجيد والأمن والرخاء، وتركوا لأهل الكويت (الأصليين) التصرف بالثروة والسلطة. كان أهل الكويت الأصليين يتسمون بأهل (السور)، ومن قَدِمُوا بعد النفط يُسمون بمن هم خارج السور. وخلال ما يزيد على ستة عقود اختلفت التركيبة الديمغرافية في الكويت، واختلفت لهذه الاختلاف طموحات الشرائح الجديدة التي أصبحت تمثل الأغلبية السكانية. أصبح لأبناء المستوطنين الجدد وأحفادهم طموحات سياسية، ومطالبات تزداد أصواتها يوماً بعد يوم في المشاركة في السلطة والثروة .. ومع الزمن، وضعف الأسرة الحاكمة وانقساماتها، وتشرذمها إلى أجنحة، أصبحت هذه الأصوات تفرض طموحاتها متسلحة بالدستور الذي يعطي الجميع (نظريا) حقوقاً متساوية، بينما التطبيق يختلف عمّا يقوله الدستور. ولأن فئة كبيرة من المستوطنين الجدد في الكويت هم ذوو أصول بدوية، فقد تسلح (الأبناء) بالقبيلة كتجمع سياسي لجمع أصواتهم وتقوية سلطتهم وتمتين تكاتفهم للوصول إلى طموحاتهم السياسية. وفي المقابل وجد القادمون الشيعة من الأهواز أن (الطائفة) كنواة تجمع سياسي هي الأخرى وسيلة مناسبة لتحقيق طموحاتهم. وفي النتيجة أصبحت (الطائفة) أو (القبيلة) هي الوسيلة السياسية لتحقيق الطموحات في ظل غياب الأحزاب السياسية التي يمنعها الدستور. وبدلاً من أن تقضي الديمقراطية على الأشكال الاجتماعية البدائية (القبيلة ndash; الطائفة) نجد أنها كرستها، وجذرتها، وأصبحت (قيمها) هي التي توجه القرار السياسي في الكويت.
كل ما أريد أن أقوله هنا أن (تذويب) القبيلة و(الطائفة)، وفي المقابل العمل الجاد على بناء مؤسسات (مدنية) بديلة للمؤسسات الاجتماعية التقليدية، هو شرط ضرورة لا يمكن الاستغناء عنه لنجاح الحل الديمقراطي.
التعليقات